بورتسودان: التحول
دافع وزير العدل السوداني، مولانا د. معاوية عثمان محمد خير، عن شكوى السودان ضد الإمارات العربية المتحدة والتي أبان بأنها تستند إلى اتهامات مباشرة للإمارات بتقديم دعم تسليحي ومالي ولوجستي للمليشيا، واستقطاب مرتزقة للقتال في صفوفها منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023. وأكد أن السودان قدم ملفاً قانونياً متكاملاً عبر فريق قانوني وطني، استعان بخبرات دولية مرموقة في هذا المجال.
وتقدم السودان بشكوى رسمية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد دولة الإمارات، طالباً إلزامها بوقف دعمها للمليشيا المتمردة ورفع تقارير شهرية توضح التزامها بهذا الإجراء، وذلك بموجب المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة.
وتعد شكوى السودان ضد الإمارات سابقة هي الأولى من نوعها، وقد مثلت حكومة السودان الحالية، التي تتخذ من مدينة بورتسودان مقرًا لها وتُعتبر امتدادًا للمؤسسة العسكرية المدعومة من الإسلاميين، أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، متهمةً دولة الإمارات العربية المتحدة بالتواطؤ في “الإبادة الجماعية” التي وقعت في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور في يونيو 2023.
واستندت الدعوى إلى تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش، حمّل ميليشيات عربية وقوات ترتدي زي الدعم السريع مسؤولية مقتل الآلاف وتشريد مئات الآلاف من المدنيين، معظمهم من إثنية المساليت. واعتبرت حكومة بورتسودان أن الدعم الإماراتي المزعوم للدعم السريع يرقى إلى خرقٍ صارخ لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
الشكوى مهمة وطنية:
وأوضح الوزير، خلال مؤتمر صحفي نظمته وكالة السودان للأنباء في بورتسودان، الخميس، أن الفريق القانوني باشر مهامه بتقديم الشكوى رسمياً في العاشر من الشهر الجاري، مشيراً إلى أنه تم اختيار القاضي سيما، صاحب الخبرة في النزاعات الدولية، للنظر في القضية. وأكد أن الشكوى تمثل مهمة وطنية تسعى لإثبات التورط الإماراتي في ما وصفه بـ”العدوان الغاشم” على السودان.
من جانبه، أكد المحامي العام بوزارة العدل، د. معتصم السنوسي، أن أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة وقابلة للنفاذ، موضحاً أن مجلس الأمن الدولي هو الجهة المخولة قانوناً بتنفيذ الأحكام حال امتناع الدولة المدانة عن التنفيذ الطوعي. واستشهد في ذلك بالقضية التي رفعتها نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، والتي انتهت بإصدار حكم لصالح نيكاراغوا ودخول واشنطن في مفاوضات مباشرة معها بعد أن كانت المحكمة قد رفضت دفوعاً أميركية تطعن في اختصاصها.
السنوسي أشار أيضاً إلى أن من إفرازات طرح القضية ضد الإمارات تصاعد الهجمات بالطائرات المسيّرة على محطات الكهرباء والمواطنين، مضيفاً أن الشكوى السودانية تستند إلى المادة 9 من اتفاقية منع الإبادة الجماعية، لتعارض الدعم الإماراتي للمليشيا مع جوهر الاتفاقية. وأكد أن الإمارات لم تقدم دفاعاً موضوعياً أمام المحكمة، بل تقدمت بطلب لتعديل تحفظها على الاتفاقية بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على توقيعها.

تحركات حقوقية في لاهاي:
كما كشف السنوسي عن تحركات حقوقية موازية، شملت تقييد دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وقائد المليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي”، وقائد ثاني قوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، وعدد من قادة المليشيا، بتهم تتعلق بارتكاب انتهاكات جسيمة في السودان.
وكشفت وكيل وزارة العدل، مولانا هويدا علي عوض الكريم، عن تفاصيل الإجراءات التي اتبعتها الوزارة في إعداد الملف القانوني، مؤكدة أن الوزارة قدمت مذكرة إلى مجلس السيادة تضمنت الخيارات القانونية الممكنة لمساءلة الدول والأفراد المتورطين في دعم الحرب في السودان. وأشارت إلى أنه تم تشكيل لجنة فنية وقانونية ضمت 11 عضواً من جهات معنية، وقامت باختيار مكاتب محاماة دولية بالتشاور مع الخبراء الوطنيين.
وأوضحت أن المكاتب القانونية المكلفة بصياغة الدعوى عملت بالتنسيق مع الحكومة السودانية، وتمت مراجعة المسودات المقدمة بدقة، مشيرة إلى أن أحد أبرز التحديات تمثل في الحاجة إلى خبير قانوني يجيد اللغة اللاتينية. وأكدت أن كافة الإجراءات سارت بصورة قانونية ومهنية حتى تقديم الدعوى رسمياً إلى محكمة العدل الدولية.
مرافعات ومفارقات
في الجلسة الافتتاحية التي عُقدت يوم الخميس 10 أبريل، قدّم وزير العدل السوداني، معاوية عثمان، مرافعة اتهم فيها الإمارات بارتكاب إبادة جماعية وطالب بتدابير مؤقتة عاجلة ضدها. في المقابل، دافعت الإمارات عن موقفها، مشيرة إلى أن الادعاءات “مضللة” و”ملفقة”، مؤكدة تحفظها السابق على المادة التاسعة من الاتفاقية.
لكن المفارقة الأبرز، كما أشار إليها محللون ومحامون سودانيون، تكمن في أن الحكومة السودانية ذاتها، التي تمثل الدولة الآن في المحكمة الدولية، تضم عناصر متورطة في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، وتُعد امتدادًا لنظام إسلامي ارتكب فظائع موثقة في دارفور بين 2003 و2010، وتواصل اليوم التواطؤ أو الصمت حيال المجازر الجارية.
صمت العدالة… وتمجيد الإفلات
المفارقة القانونية تتجلى بوضوح في رفض حكومة بورتسودان التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، التي تطالب منذ سنوات بتسليم عدد من رموز النظام السابق، على رأسهم عمر البشير، وعبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون.
وبرغم تعهدات سابقة من الحكومة الانتقالية المدنية بتسليمهم، إلا أن الحكومة الحالية تواصل التسويف والادعاء بوجود “عدالة داخلية”، رغم الأدلة على عرقلتها المستمرة للعدالة، بحسب تقارير المدعي العام كريم خان.
وفي هذا السياق قال معز حضرة، المحامي السوداني البارز والمتحدث باسم هيئة الادعاء في محاكمة البشير (المعلقة بعد انقلاب 2021):
“إن القائمين على حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، الذين نراهم اليوم في لاهاي يتهمون دولة الإمارات بالإبادة الجماعية، هم أنفسهم من يوفّرون الحماية لأولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور.”
ازدواجية المعايير:
من خلال تتبّع خطاب الدولة السودانية في لاهاي ومقارنتها بممارساتها داخل الأراضي السودانية، تظهر صورة صارخة من ازدواجية المعايير؛ حكومة تتحدث بلغة القانون الدولي وحقوق الإنسان في الخارج، بينما تمارس التعتيم والتضليل وعرقلة العدالة داخليًا.
ويرى عدد من خبراء القانون، من بينهم البروفيسور مايكل بيكر من كلية ترينيتي في دبلن، أن القضية المرفوعة ضد الإمارات تفتقر إلى الأساس القانوني الكافي، بل قد تُرفض لعدم اختصاص المحكمة، خاصة في ظل تحفظ الإمارات على المادة 9.
“جريمة الإبادة لا تُثبت بالتمني. لا توجد أدلة قانونية مباشرة أو غير مباشرة على تواطؤ الإمارات، بل إن حكومة بورتسودان نفسها تنتهك روح اتفاقية منع الإبادة من خلال صمتها على الجرائم الجارية”، كما يقول المحامي معز حضرة.