Site icon صحيفة التحول

السودان… خيارا الإفناء الذاتي والإقليمي

السفير والكاتب الصحفي والمحلل السياسي جمال محمد إبراهيم ـ مصدر الصورة ـ مواقع التواصل الاجتماعي

جمال محمد إبراهيم

+الخط(1)
تتزايد تعقيدات المشهد السوداني يوماً بعد يوم، فيما توغل الحربُ الكارثيّة في عامها الثالث، ويتواصل النزيف الذي سبّبته تلك الحرب، ويتواصل قتل الأبرياء من أبناء الشعب السوداني بلا أفقٍ يوقف تلك الحرب، وإنّ كلّ يومٍ يمرّ على تلك الكارثة التي تجري فصولها داخل السودان، لا يُخفي على المتابعين رصد امتداداتها خارج السودان، بما يُخرج تصنيف هذه الحرب الكارثية من كونها حرباً أهلية إلى صيرورتها حرباً إقليمية بامتياز، بسبب تدخّلات وتقاطع أجندات ومصالح لأطرافٍ تقع وراء حدود السودان الجغرافية المعلومة. إنّ التحوّلات التي طرأت على طبيعة الحروب في سنوات الألفية الثالثة، تجاوزت ما شاع في سنوات القرن العشرين، ممّا وقع من حروبٍ بالوكالة، أو حتى عبر تجنيد مرتزقة أو جواسيس. تلك أمور لم تعد لها صلاحية في السنوات الماثلة، سنوات الثورة الرقمية واتساع رقعة الشفافية المعلوماتية، وانكشاف بقاع العالم بعضها على بعض بحيثيّات افتراضية كاسحة. تلك تطوّرات أدخلت العالم مرحلةً تجاوزت عبرها المعطيات التقليدية التي ظلّتْ سائدةً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، بقصد كبح جماح الصراعات التي قد تنشب بين أطراف المجتمع الدولي، وفق التعريف الذي بدأ يتهاوى في سنوات الألفية الثالثة.

(2)
إنّ نظرةً واحدةً إلى مجمل الصراعات التي تحوّلتْ حروباً طاحنةً، مثل ما وقع بين روسيا وأوكرانيا، أو حرب إسرائيل على الشعب الفلسطيني، أو الحرب الدائرة في السودان بين أطرافه الداخلية بامتداداتها الخارجية، تُقنع أيَّ متابعٍ أن ما توافق عليه المجتمع الدولي من مبادئ لحفظ السلم والأمن الدوليَّين، بات هرطقةً لغويةً لا علاقة لها بالواقع الماثل. إنّ جميع هيئات ومنظّمات المجتمع الدولي، باتت محض ظواهر صوتية، تجعجع من دون طحين، وتولول لموت قتيل ولا تملك أن تعاقب قاتِلَه.
لم يلتفت رئيس إسرائيلي إلى أيّ طرف (دولي أو غير دولي) ليدير ما يشبه حرب إبادةٍ جماعيةٍ لشعبٍ فلسطينيٍّ أعزل، يُذبح وتدمّر مدنه وقراه ويُجبر على الخروج إلى الدياسبورا (الشتات). كأنّ زعماء الدولة الصهيونية ينتقمون من عرب فلسطين ويذيقونهم ما ناله اليهود عبر تاريخهم في الشتات الطويل، إنهم يصنعون دياسبورا عربية، مستغلّين عجز المجتمع الدولي عن ردعهم، ومتّكئين على سيطرتهم (بطريق غير مباشرة) على أطراف دولية نافذة ارتهنت إراداتُها لهم.
(3)
ثمّ نرى تصاعد الاشتباكات بين روسيا وأوكرانيا، حرباً يقف العالم أمامها على أطراف أصابعه، إن تواصلت تعقيدات تلك الحرب لتكون حرباً نووية تأخذ العالم إلى إفناءٍ متبادل. تراجعت تلك الحرب بفراسخ بعيدةً من المجتمع الدولي، لتعزِّز عجز منظّماته عن التذكير بقيم ومبادئ حفظ السلم والأمن الدوليَّين. هكذا بقيتْ الأمم المتحدة (غير مأسوفٍ عليها) ظاهرةً لسانيةً مبحوحةَ الصوت.
أمّا الحرب الدائرة في السودان فظلّت (مع تنافس أطرافها، وبعضهم قبِلَ أن يكون وكيلاً لأطرافٍ خارجيةٍ في تدمير ثاني أكبر دولة مساحةً ومواردَ وسكّاناً) شأناً منسياً، وتعجز حتى المنظّمة الأممية عن لجم الاشتباكات فيها، وهي دولة من دول العالم الثالث الهشّة. إن التصعيد الماثل في حرب السودان، وفي مشهد من مشاهد الحروب التي تُدار اشتباكاتها بأسلحة الجيل الجديد الافتراضية، من طائرات بطيّارٍ أو من دون طيار، أو بمسيّرات انتحارية أو ذكية تدمِّر وتهرب، يتجاوز تصنيفها محض حربٍ أهلية داخلية، لتكون حرباً إقليمية افتراضية، تتقاطع في فضائها مصالحُ بلدانٍ في الإقليم، وربّما خارج الإقليم. إن الاشتباكات والضربات الموجعة في الحرب السودانية، من أطراف يصعب رصدها، قد تفتح باباً لشكوك حول استهداف من بعد يأتي من جهات وراء حدود السودان.

(4)
لعلّ الأخطر في مشهد السودان الماثل إصرار الأطراف المتقاتلة على المضي في الاشتباكات بدعمٍ من أطرافٍ خارجيةٍ خفيّة، بما قد يفضي إلى تصعيد تظهر معه هذه الأطراف الخارجية بصورة جليّة. إن إقدام السلطات العسكرية في السودان، خاصّة بعد تعمّد استهدافها في مقرها في العاصمة المؤقّتة، لإعلان موافقتها على استضافة قاعدة عسكرية روسية في السواحل السودانية للبحر الأحمر، سيفتح باباً لتدويل عسكري لكامل الدول المشاطئة لذلك البحر، وإن التصعيد الذي يجري في معاقبة الحوثيين في اليمن، بمشاركة إسرائيل والولايات المتحدة، يجعل من احتمالات جعل ذلك الإقليم ساحةً لمواجهات إقليمية ودولية أيضاً.
ويبقى على السلطات العسكرية في السودان أن تتحسّب لتلك التطوّرات، وإلّا ستكون طرفاً في مواجهاتٍ عسكريةٍ ذات أبعاد إقليمية، وربّما دولية، لن يُكتب بعدها للسودان إلّا الفناء.

العربي الجديد

Exit mobile version