Site icon صحيفة التحول

الصمغ العربي ما بين الحُلم السيادي ومزالق التسييس: هل يفعلها السودان؟

الاجتماع المشترك لمجلسي السيادي والوزراء ـ المجلس السيادي

عبد العظيم ميرغني

ما الذي يجعل سلعةً زراعيةً تتحول إلى أداة سيادية؟
︎ ما الذي جعل من زيت النخيل سلعة سيادية لإندونيسيا وماليزيا، ومن النحاس أداة استراتيجية لتشيلي، ومن الكاكاو علامة وطنية للإكوادور؟
︎ لماذا ليس لدينا سلعة سيادية مثل غيرنا من الدول؟
︎ لماذا ظل الصمغ العربي في السودان مثلاً بعيداً عن أن يُفعَّـل كسـلاح سـيادي ونفوذ ناعـم؟
︎ بإعتباره خياراً طبيعياً ، يتمتع الصمغ العربي بمؤهلات أقوى لتأدية هذا الدور مقارنة بالنحاس التشيلي ؛ لا بسبب قيمته التجارية العالية وندرته فحسب ، بل لأنه منتج متجدد ، بخلاف النحاس الذي يُصنّف مورداً قابلاً للنضوب . ومع ذلك تُقدّم التجربة التشيلية نموذجاً راسخاً لتطوير سلعة إستراتيجية ضمن إطار مؤسسي يميز بوضوح بين أدوار الدولة والمنتجين .
︎ يعد الصمغ العربي أكثر ملاءمة من الكاكاو الإكوادوري لتوظيفه كسلعة إستراتيجية ، ليس فقط بسبب إستخدامه الآمـن وتجربته عبر قرون ، بل أيضاً لتعدد إستخداماته في الصناعات الدوائية والغذائية والتقنية .
في المقابل لم يحقق الكاكاو الإكوادوري مكانته إلا بعد أن أعيد تقديمه كعلامة تجارية وطنية فاخرة ، من خلال تحسين الجودة ، وتطوير التسويق ، ودعم صغار المنتجين ، دون تسييس أو تدخلات خارج الإطار الإقتصادي .
︎ ما يميز الصمغ العربي عن زيت النخيل الأندونيسي والماليزي أنه نتاج تفاعل طويل ومستدام بين الإنسان والبيئة ، يستند إلى المعرفة المحلية والممارسات الزراعية التقليدية المتوارثة ، مما يجعله مرشحاً مثـالياً للإندماج في منظومة ” الإقتصـاد الأخضـر ” التي تسعى إلى التوازن بين النمو الإقتصادي والحفاظ على البيئة .
︎ في المقابل ورغم الأهمية الإقتصادية لزيت النخيل ، إلا أنه لم ينظر إليه في ماليزيا كسلعة إستراتيجية إلا في ستينيات القرن الماضي ، حين بدأت الدولة الإستثمار المنظم فيه .
وقد تمكنت ماليزيا بفضل تحالف إقتصادي-سياسي متين من تحويل هذا المورد الزراعي من مجرد مصدر لمنتج خام إلى سلعة وأداة إستراتيجية ، مكنها من بسـط نفوذها حتى على أسـواق أوروبا وآسـيا .
︎ وفي إندونيسيا المنتج الأول لزيت النخيل في العالم لم يتحول هذا المنتج الزراعي إلى سلعة إستراتيجية ، إلا من خلال البنية المؤسسية الفاعلة ، غير أن هذه المكاسب كادت أن تتبدد عندما دخل المنتج في مواجهة سياسية مع الإتحاد الأوروبي ، مما أظهر هشاشـة الإنجـاز حين يُـزج بالإقتصاد في رهـانات السياسـة .
︎ لم يكن التحول الماليزي هذا نتاج مصادفة ، بل عدة خطوات مدروسة ، منها فرض قيود تدريجية على تصدير الزيت الخامة، وإنشـاء هيئة خاصة مكلفة بتنظيم السوق ، البحث العلمي ، والتسويق الدولي ، إلى جانب دعم الصناعات التحويلية في مجالات الأغـذية والتجميـل والزيوت الصـناعية ، وتأهيـل المـزارعين ، وتعزيز دور التعاونيات .
︎ بعد هذا النموذج الناجح ، يبرز سـؤال مُلِـح :
ما الذي لم يفعله السـودان بالصـمغ العـربي ، وفعلته مـاليزيا بزيت النخيـل؟
︎ لم يكن السودان غائبـاً عن سـاحة المُبـادرات ؛ فمنذ سـتينيات القرن الماضي ، إتخـذ خـطوات واعـدة في تنـظيم قطاع الصـمغ العـربي ، بدأت بسن قانون الإمتياز (الإحتكار) وإنشـاء شـركة الإمتيِاز (شركة الصـمغ العـربي) في السـتينات أيضاً (1969) ، لتتولى المـهام المماثـلة لما أوكلته مـاليزيا إلى هيئتها المختصـة بزيت النخـيل.
ثم أُنشئ مجلس سـلعي في 2009 مع تحرير القطاع من نظام الإحتكار ، تلاه إعداد خطة إستراتيجية شاملة (2020–2030) بأهـداف واضـحة ومشـروعات محـددة ، منها فرض إجراءات تنفيذية لتصدير الصـمغ مصـنعاً في خطوات تدريجيـة ، إضـافة إلى تنظيم أكثـر من 4500 جـمعية تعاونيـة لصـغار المنتجـين .
︎ على الورق تبـدو الخطـوات التي إتخذها السـودان مُـطابقة تقـريباً لما فعلته مـاليزيا . ومـع ذلك يبقى السـؤال معلقـاً:
لمـاذا لم يجـنِ السـودان نتائج مـماثلة؟
︎ الجواب لا يكمن في نقص المبادرات أو غياب الخُطط ، بل في غياب البيئة المؤـسية المُستقرة التي تفصل بين الإقتصاد والسياسة ، وتوفـر إرادة سـيادية تضـع المصـلحة الوطنيـة فوق الإعتبارات الآنية والضيقة .
︎ فعلى الرغم مـن توافر الموارد ، والإرث المعرفي المتجذر حـول الشجرة ، والنصيب الأكبر من السوق العـالمي ، لم تُترجـم هـذه الميزات إلى نفـوذ فعَّال أو مكاسب إستراتيجية .
وظل الصمغ العربي حبيس خانة ” الحُلم السيادي ” حُلمٌ مُعلّق فوق الشجرة ، ومُهدداً دوماً بخطر التوظيف السياسي أو تقلبات الأسواق التي قد تدفع العالـم إلى البحـث عن بدائـل ، وتُفسح المجـال لمنافسـين جُـدد.
︎ من هـنا تبـرز أهمـية مراجعـة التجارب السـابقة ، لا سـيما تلك التي كشـفت عن مكامـن الخـلل في إدارة هذا المـورد الإسـتراتيجي ، كما أوضحتها دراسـة الهيئـة القوميـة للغـابات بالتعـاون مع الفـاو عام 2001 ، التي شـملت مسـحاً للأسـواق العالميـة أنجـزه الخبيـر البريطاني جـون كوبـن ، إلى جانب دراسـة مجموعـة سـتيرلنغ العالمية المكلّفة من قِبـل الهيئـة القومية للغـابات في العام 2012 ، والتي هدفت إلى إِستكشاف الطلب العـالمي وتحـديد فُـرص الصـمغ السـوداني في الأسـواق الدوليـة .
︎ أوضحت هاتان الدراستان ، على سبيل المثال لا الحصر ، تزعـزع ثقـة المستهلك في سـلعة الصـمغ العـربي وإهتـزاز ثقتـه في قـدرة وإمكانـات السـودان علي ضـمان تدفـق الصـمغ علي الأسـواق العالمية مثلمـا حـدث في موسمي 73/1974 و 84/1985 حين إسـتغل السـودان نـدرة الإنتـاج في دول غـرب أفريقيـا بفعـل الجفـاف ، و92/1993م في السـودان بفعـل أسـراب الجـراد ، لتحقيق أكبـر عائـد من العمـلات الصـعبة عن طريق بيع للصـمغ بالعطاءات .
︎ فإرتفعت الأسـعار بنسبة تجاوزت 400% مقارنـة بأسـعار بدايـة الموسـم ، الأمـر الذي حفّـز الأسـواق العالمية على البحث عن بدائـل الصـمغ الإصطناعية زهـيدة الثمـن والأكـثر إسـتقراراً مقارنة بالصـمغ ، والتي إقتـطعت نسبة 30% من سـوق الصـمغ العالمي . كما دفع قصـور الإمـداد وارتفاع الاسعار المستهلك للتوجـه نحو محاولـة كسـر إحتـكار السـودان لسـلعة الصـمغ في الأسواق العالمية بتشـجيع دول أخـرى منافسة لزيـادة إنتاجها من الصـمغ ، وتعـديل مواصـفة الصـمغ العربي كذلك لتشـمل صـمغ الطلح الذي تتمـيز به تلك الدول بجانب صمغ الهشاب الذي نتميـز به نحـن .
︎ وفي التسعينيات حينما بلغ سعر طن الصـمغ نحو 4200 دولار ، تراجعت الصـادرات وتراكم المخـزون ، لتؤكـد التجـربة أن التسـعير السـياسي قصـير الأمد لا يصنع إسـتراتيجية تنموية ، بل يُعرقِـل النمـو ويُقـوّض فـرص الإسـتدامة الإقتصـادية .
︎ تمخض عن كل ذلك محاولات كسـر إحتكـار السـودان لسـوق الصـمغ العالمي ، والتي بدأت بتوسيع مواصفة الصـمغ العربي (في عام 1998) ، لتضم صمغ الطلح لصـمغ الهشاب الذي يتميز به السـودان ، والذي يبلغ سعر صـمغه أقلّ من ثُلـث سـعر صـمغ الهشـاب .
︎ فتحت هذه المواصفة المجال واسـعاً أمام تصدير صـمغ الطلح حتى صـارت صـادراته تُشـكل أكثـر من 80% من إجمـالي صـادرات السـودان في الأسـواق العالميـة ، مما تسـبب في فقـدان السـودان جـزءاً كبيراً من عائدات العملة الصعبة .
︎ أدى تبني مواصـفة 1998 إلى زيادة عدد الدول الأفريقية المنتجة للصـمغ العربي من 8 دول قبل المواصـفة إلى 15 دولـة بعـدها .
︎ وفي سـياق محاولات كسـر إِحـتكار السـودان لسـوق الصـمغ العالمي ظلت الأسـعار التي تدفعها الشـركات العالمية لشراء أصـماغ نيجيريا وتشاد دائماً أعلى من تلك التي تدفعها مُقـابل صـمغ السـودان ، رغم تفوق جـودة الصـمغ السـوداني . وهو ما يعكس إختلالاً في القيمة السـوقية لمنتج إسـتراتيجي ، ويعيد طرح السـؤال حول ما إذا كنا نمنح هذا المورد ما يسـتحق من إهتمـام وتخـطيط .
︎ في الختـام يبقى الصـمغ العـربي حُلمـاً سـيادياً مشـروعاً ونبيـلاً ، لكـن تحققـه مرهـونٌ بالخـروج من مـزالق التسييس إلى رحاب الإدارة الرشـيدة .
︎ ما ينقص السـودان ليس المـوارد ولا الـرُؤى ، بل الإرادة المؤسـسية التي تحول الحُلـم إلى واقـع .
︎ فهل يفعلها السودان؟
︎ تضـرُعاتي بحسـن الخـلاص ؛ وتحيـاتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبدالعظيم ميرغني ــــ خبير زراعي والمدير العام السابق لإدارة الغابات بوزارة الزراعة

Exit mobile version