صلاح الزين
“هناك حديث عن تشكيل حكومة مدنية في مناطق سيطرة الدعم السريع، وهذه محاولة لعدم إعلان موقف واضح من المعركة، ويريد البعض تحت ستار المدنية أن لا يعلنوا موقفهم مع الدعم السريع. هذا سيكلف شبابنا ومجتمعاتنا أرواحهم لحماية حكومة لا تعترف بأنها حكومة الدعم السريع.
إذا كان هناك تشكيل لحكومة يجب أن تكون بقيادة قائد الدعم السريع المعروف، ومشاركة أصحاب المصلحة من الذين دفعوا ثمن هذه الحرب، لأن الدعم السريع بشكله الذي كان يوم ١٥ أبريل لم يعد موجوداً، ومن أراد المشاركة في هكذا حكومة عليه أن يعلن موقفه وأيضاً مشاركته في القتال بالبندقية”.
هكذا غرد يوسف عزت الماهري المستشار السابق لقائد قوات الدعم السريع. وبذلك أزاح حجب الخطاب، خطاب حرب أبريل 2023 ، وقَذفَ به لسلاسة الوضوح وجلافته في ذات الآن.
مؤجلٌ يُرتجَى فيُفضَح ليؤجَّل من غير أن يبارح موقعه في صدر ذات النوايا. فالخطاب، أي خطاب، يغرر به وهو صغير إلى أن يشتد عوده ويكتسب فتوة الإفصاح فيقول قوله بلسان التاريخ وتبدلاته وإنْ كَرِهَ أولوا الأمر!!
ولأن الخطاب دوماً يتلفع بعباءة التاريخ واشتراطاته، كما التاريخ، لا يخلو قوامه من كِلا الستر والعورة في صعوده اللولبي نحو سفحه المحتوم بخطو الضرورة والاتساق.
فقد طُمِرَ قولُ الخطاب، خطاب حرب أبريل، وأُخفيت معالمه وصبواته تحت وحل النظر لحرب أبريل كصراع بين “الفلول” و”الجنجويد” مما يسلم القول إلى انشطار الخطاب وتَوَزُّعِه على قوى اجتماعية وطبقية ذات مصالح اقتصادية وسياسية وفكرية متنافرة. فيغضّ الطرف عن حقيقة شاهقة وبسفور يقذي العين ويرمدها: ذات “الفلول” و”الجنجويد” كانوا رافعة الخطاب السياسي إبان حكومة “حمدوك” وأثناء وبعد انقلاب أكتوبر 2021 وصولاً إلى حربهم، حرب أبريل 2023.
ذات الحواضن والروافع خطت من فوق عتبة ما قبل الحرب وهي تجر قاطرة ذات المصالح السياسية والاقتصادية في مهرجان أُلبِسَ طاقية خفاء تتستر على وضوحٍ فيه لازمٍ له وبه يكون: ذكاء الخطاب ومكره.
تساوَقَ واعتلى صهوة جواد ضرورة نهوضه وسيرورته ليفجِّر حرب أبريل، حربه، حتى تغلق كوة صيحات وشعارات الديسمبريين التي لازمته مِن قَبل ومِن بَعد، ليستعلن الحرب حرباً بين “فلول” و”جنجويد” ما انشطرا بَعد عن ذات المشيمة وثدي الرضاعة.
جسد برأسين أحدهما “فلولي” والآخر “جنجويدي” يَهِبان الإله “جانيوس” استمرار القداسة في الراهن والمنظور لتبدو الحرب مجرد مشاجرة “شَكلة” بين رأسين لم يطيقا الجلوس على جسدٍ يحملهما كلعنةٍ وعَوْرة، ومِن ثَم ضرورة المصالحة بين هذين الشقيَيْن وأوبتهما إلى حضن بِنْيةِ ذات الخطاب، خطاب حرب أبريل، متخاصرَيْن وسالمَيْن.
اقتنصَ شَركُ هذا المنظور مجموعةَ (الحرية والتغيير) في كل مسيرة تحوراتها من “مركزي” و”إطاري” انتهاءً بمتحورها الأخير (تقدُّم)، وبكليّتها غرقت واستقرت في قاع هذا الفخ وأصبحت تَرى في الحرب حرباً بين “فلول” و”جنجويد”، لا ثالث لهما، لا حرباً بين خطاب برأسين ضد شعوب البلاد التي أيقظها شعار الديسمبريين: العسكر للثكنات و الجنجويد ينحل، والمرقون في “إنجيلهم”: الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب، كأحد أهم وثيقة سياسية في دولة السودان الكولونيالية، دولة ما بعد الاستقلال.
ومن يتنكب الخطو تلازمه العترات. فحملت قوى الحرية و التغيير، وصولاً حتى قوامها الأخير (تقدُّم)، تلك البذرة التالفة، بطينها وبلولتها، في النظر لطبيعة الحرب ومقاربة بِنْية خطابها وتشخيصه. عجز بنيوي ينمو ويرتحل مع (الحرية والتغيير) وهي تنمسخ من متحور إلى آخر في كلا الرؤية، قراءة خطاب الحرب، والممارسة، التعاطي مع سؤال الحرب.
تَبِعَ ذلك امتطاءُ ذاك العجز البنيوي لقارب بلا بوصلة ومُشرِعة ساريته لريحِ أربعِ جهات الأرض تسوقه من مرسى ومدينة وقارة إلى مرسى ومدينة أخرى وقارة. فامتلأ المركب بنصوص اتفاقات وعهود انحطّت بالسياسة إلى ما دون تعريفها كسؤال يُعنَى بالمعاش والجمال وكبرياء الشعوب إلى علم السياسة، المرقون في المراجع والمكتبات ومراكز البحوث، كممارسة نَصِّية يمحو فيها النَصُّ اللاحق ما سبقه من نصوص والاتفاقُ الأخير ما سبقه من اتفاقيات. فقط مركب ينطرب بما يحمله من شخوص يطربهم هذا التجوال الأوديسي وسحر الأمكنة من غير الوقوف عند شاطيء ومرسىً وطنيٍّ يمكن أن ينفخَ الشراعَ بريح مغايرة تخفف غلواء تجواله ورهقه. فقد حلت الرياح الإقليمية والدولية محل تلك المحلية التي بمقدورها أن تلجم ذاك التجوال.
وفي عجزهم البنيوي ذاك، في التفكر والممارسة، فيما يخص خطاب حرب أبريل 2023 وسؤالها بالنظر إليها كحرب بين خطابين ينسندان بروافعَ وسقالاتٍ متغايرة تسندهما تدخلات إقليمية ودولية، أقول فقد شارف المركب على الرسو على شاطيء العدم.
َتعِبَ مركبُ خطاب (تقدُّم) وبلغ به الإرهاق مبلغاً ليُلقِي راكبوه هلب anchor مركِبهم عند شاطيء عجزهم وقصورهم عن التعاطي مع خطاب الحرب كحرب بين رأس “فلولي” و”جنجويدي” مغروسان في جسد واحد بهما يكون وبدونهما ينعدم ويفنى، كل يشترط الآخر وبه يكون.
فألقى بمرساة قاربه، ذات لقاء تداولي بكمبالا، عند شواطيء ما اسماه بـ”حكومة المنفى” أو “حكومة موازية” في مناطق سيطرة الدعم السريع (الجنجويد) قبالة حكومة الأمر الواقع (الفلول) في مناطق سيطرتها ليتوج عجزه، أعني خطاب (تقدُّم)، ويعزز ارتهانه لقوى الخارج، الإقليمية والدولية.
بل يمكن القول إن خطاب حرب أبريل 2023، منظوراً له كحربٍ طرفاها “فلولي” و”جنجويدي” كان برحم مخصَّب ببذرة ما انتهت إليه بعض أطراف (تقدُّم) بضرورة قيام حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع (الجنجويد). وبذلك إمكان أن ينشطر بنية خطاب (تقدُّم) ليناظر بنيوية رؤيتها لانشطار خطاب حرب أبريل بين “فلول” و”جنجويد” وما قد يلي ذلك من اصطفافات خطابية تحوق بالمشهد السوداني على مقربة من العين الإقليمية وشهيات رأس المال المعولم.
يقول الناطق الرسمي لـ(تقدُّم): “من يتحدثون عن تكوين حكومة يخططون إلى تكوينها في مناطق الدعم السريع”. ويزيد بأن “الموقف الرسمي لـتقدُّم عبر مؤسساتها لا يدعم تكوين حكومة بل هو العمل على تنفيذ الرؤية السياسية”. ويستطرد أن “ذهاب بعض الأفراد أو الكيانات من مكونات تقدُّم يعني أنهم فارقوا خط التنسيقية”. ويعود ليفصح أكثر “سيكون لمؤسسات تقدُّم البَت في كيفية فك الارتباط دون إحداث شرخ في التنسيقية”. ليصاديه من ذات بنية مقصورة الخطاب الهادي إدريس بالقول “لا تَراجُع عن تشكيل الحكومة واسترداد الشرعية”، بمعنى إنشاء حكومة في مناطق سيطرة الدعم السريع (الجنجويد).
للخطاب، أي خطاب، بما تقتضيه ضرورات سيرورته وسلامة خطْوِهِ، مهارات ودِربة بها يكون المؤجَّل هو هو ذات المُرتجَى لحين تأجيل آخر يُرتجَى. يكون ذلك بالمباغتة أو التمهل، سيان.
النص/القول، حتى يتَّسق كنصٍ وملفوظ utterance، دوماً يشترط مقاربته بنيوياً وتناصياً intertextually في قرابته مع نصوص سابقة ولاحقة، مجاورة ومفارقة، للقبض على قرابة القول وأخوة الدم. هكذا يُقرأ ما رَسَت عليه مداولات (تقدُّم) في تفاكرها “الكمبالي” الأخير معطوفاً ومقروناً بما قالته تغريدة (عزت الماهري) المذكورة عاليه، وإنْ لم يكن حضوراً في اللقاء: فمن طبيعة بنية الخطاب واستراتيجياته أن يكون حضوراً، يُلمَس ويُرى، وإنْ غاب!!
فالخطاب ككائن، مِثْله مِثل الكائنات الحية، يشب عن الطوق ويقوَى عوده ويخرج عن إرادة ولاةِ أمرِهِ، يضيقُ بالمسكوت عنه فيُفصِح ويقول..
وقد قال وأبانَ، مما يدعو للتأمل والنظر المختلف الذي لا يَرى للظاهرة والماثل، حرب أبريل، بعين الظاهرة فيقولُ قولها ويصيرها، مبنىً ومعنىً، عِوَضَ أن ينتج معرفةً بها.