صلاح الزين
ومن يسكُنُ البَيْتَ من بَعدنا يا أَبي؟
سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي!
تَحَسَّسَ مفتاحَهُ مثلما يتحسَّسُ أَعضاءه، واطمأنَّ..
محمود درويش
في كتابةٍ سابقة بعنوان (الحرب وسوسيولوجيا النزوح) قُلتُ “السوسيولوجيا عِلْمُ مجتمعات الحضر، علم المجتمع، الناس إنْ كانوا أحياء أو موتى، بحواكيرٍ ومنزلٍ وسَمَرٍ وذكريات أو قبرٍ معلومِ المكان أو آخر على عتبة الباب أو مكان مَقعدٍ لِطفلٍ في روضة لم يبدأ هرج يومه بعد.
هي علم ابتعاد العباد عن صلصال النشأة لتكَوُّنِ الأديان وعلم الجمال. بينما النزوح: ذاك الخطو من صلصالٍ لآخر، كَمَن يهشُّ جرادًا يتطفل على قيلولةِ حقلْ، أو معاندة إبليس لإرادة الإله حتى تسقط التفاحة على حِجْرِ (نيوتن) ويذهب الإله وإبليسُهُ إلى عطلةٍ فيها تَخلُدُ الحياةُ للحياة. بذلك تكون السوسيولوجيا هي علم الحياة”.
تُرى هل تختلف قراءات علم السوسيولوجيا بين النزوح والرجوع؟ أيْ السوسيولوجيا مُدْبِرة هي هي ذات السوسيولوجيا مُقْبِلة؟ أم بين الأولى والثانية سوسيولوجيا أخرى سيحكيها العائدون إنْ عادوا؟
وهل العائد من النزوح هو هو ذاته عندما نزح؟ الله والمكان وحدهما أعلم، إذ بين النزوح من المكان، مكانك، والعودة إليه كما بين قمرٍ قبل وبعد أن تعبره غيمة أو، قُلْ، قبل وبعد موت أمك.
الرجوع، كما العطر والقُبلة الأولى، وضعيةٌ مشطورة بين السوسيولوجيا والأنطولوجيا من غير معرفةِ أيهما الأول، القَبْلُ والبَعْدُ.
المكان هو السر والسُرّة التي تعقد ذاك الانشطار ليتأمل نفسه في مرآة قَبْليتِهِ وبَعْديتِهِ فيقول إنْ كانت المرآةُ بأمانة الماء أو السراب.
الرجوع، مفردةً ودلالةً، يَستلزمُ فعلاً آخرَ، هو الخروج. والأخير ليس كما الذهاب الذي يستدعي طواعية الفعل والاختيار لا كما الخروج في حرب أبريل 2023: الإخراجُ والتنزيح. ومن ثم فإن العودة التي تأتي من فعل الإخراج ليست كما العودة التي تأتي من الذهاب: وبين الاثنين ما بين الريح والغمام من مؤانسة.
النازح، لا كما المكان، يغادر، والأخير، ليس كما النازح بأقدامٍ من هواء ونَعلين من طين. المكان صُرّةُ ذكريات.
وكما الإله والسماء لا يخرج النازح من عباءته، من أرضٍ له وسماء، وإنْ كان نزوحهُ نحو الفناء والعدم: لعنة مغموسة في رذاذ صيحات الآلهة حين قذفت بآدم وحواء من ملكوت السماء وكان المكان المأوى والحضن الرحيم. ومنذئذ أصبح المكان دوماً باقٍ هناك حتى لا يُطعَن ويُشكَّك في قدرة الآلهة وفتُوَّتِها ويكون قاعاً لما تقذفه الأخيرة من كوارث ولعنات حتى استحقّ وسْمَهُ بالربوبية والقداسة.
يَنزحُ مَن يَنزحْ، يَخرُجُ مَن يَخرجْ، يذهبُ من يذهبْ، ويعودُ مَن يعود والمكان هناك وهنا: صرة ذكريات تنزح مع النازحين، موتى وأحياء، من غير أن تبارح ملكوت الربوبية والعرش.
هكذا تصبح مفردات النزوح والرجوع من أين وإلى أين جَرَساً معلقاً على حَلَمةِ أُذنِ النازح بضوضاءٍ تثقبُ الأُذن وتقترح عليه مشروعاً للتأمل في ما كان وسوف يكون.
تُرى العائد من النزوح يكون بذات أقدام ونعال الخروج عند الرجوع؟ هل يختلف تعريف المكان عند الرجوع إليه، هو ذات المكان، الرائحة، الضجر. الخ؟
هل الرجوع هو فقط استدارةٌ إلى الوراء؟، وكيف تنظر إلى ما كان أَماماً؟
هل الفراشة ذات الفراشة وشغفُها هو هو ذات الشغف عندما تعاود الرجوع لذات البستان والزهرة؟ ذات الأجنحة والرفيف والخِفّة؟
وهل طعم النبيذ هو ذاته من شفاهِ عشيقةٍ وحوافِ كاسٍ مصقول؟
وضعيةٌ أشبه بالَوتر، وتر الكمنجة حين يكون على بُعدِ قُبلةٍ من أن يَنطِق بما أرضعَهُ صوتُ المغني وتهتُك النَص فيُحجِم، لبرهة، مراعاةً للحياء وحتى لا يكون للجنون أرجلاً تركل قيلولة العقل والبصيرة!
أنْ تعود ليس أنْ تقفِلَ راجعاً للمحلوم به، كما تعودُ غيمةٌ عاكَسَها اختلاف درب الريح. هو أن لا تذهب حتى تعود كسلحفاة عمياء يفتكُ بها البطء. كما العطر يبقى ولا يعود فالبقاءُ شرطُ عطريَتِهِ، كما الجمال والعشق الذي يصبا وينتلف إنْ غادر.
فالعَوْدُ ليس نقيض المغادرة. العَوْد هو المغادرة حين لا تغادر، الارتحال حين لا يرحل، كحمامة نَصَلَ جناحاها أو موت حُرِمَ من ترف الساقين والحذاء.
أنْ تستدبرَ (الحيز) نحو (المكان) هو هو شَدُّ الريح من خصرها نحو منخفضٍ جوي حتى يكون لعلم الفيزياء اتساقٌ يتوشح به مُدرِّسُها.
وما العودة؟ وما الما قبل؟
سؤالُ الما قبل والما بعد يَرضَع من ثدي المكان، المكان الذي استطال فأنجبَ الحيز. ذات الحيز الذي منه تكون العودة، عودةُ مَن نزحوا، من الحيز إلى المكان ليكونوا بشراً كما يودّون ويكون الحيز زائدةً جغرافية، مجرد زائدة تُحيلُ إلى المكان وترَفِهِ. إنه المكان، وبكبريائه، يُعلنُ حربَهُ على الحيز لتكون حرباً أخرى ما بين حربين: حرب الحرب وحرب السلام.
كما يمقتُ العابرُ ما هو دائم وباقٍ، يمقتُ الحيزُ المكانَ. للأخير ذاكرة بذكريات بينما للأول سفوحًا منحدرة لا تُبقي حتى للريح أثراً (شملة كنيزة هي تلاتية وقدّها رباعي كما أنشدَ القدال!)
فالذاكرة لا تغادر لتحتمي بالحيز. الذاكرة بِنْتُ المكان والمكان لا يغادر مكانه كإلهٍ لا يغادر ملكوت عرشه. به مِن الكبرياء ما يمنعه ذلك. المغادرة تنتقص من ربوبيته والقداسة. هو كالسديم، وكالسديم، لا يتلاشى أو يفوت. يذهب مع الناس من غير أن يغادر، ينمسخ إلى عَفَشٍ خفيف تحتقبه ذاكرة النازحين وسواعدهم فيكون، كإله، هنا وهناك، باقٍ هنا كبقاء جبال الأولمب والمواسم.
يغادر الشخوص ويزُفَهُم اعتذارُ المكانِ لهم فيكون مكوث وبقاء الذاكرة هناك، هناك في المكان، اعتذارا آخرَ من المكان لمن غادروا.
النزوح هو الخروج من المكان إلى الحيز، حيز المكان، من غير أن يكون هو امتدادٌ للمكان، ذات المكان في الجغرافية. الحيز هو طرف المكان في مكان آخر. أيُّ مكانٍ آخر هو حيزٌ لمكان معين، مكان القاطِن، الزول. ومن ثم لكل مكان حيزات توجَد خارجَهُ، كأماكن النزوح.
الحيز هو الوجود الخفي للمكان، ما يخجَلُ المكانُ عن استعلانه وكأن به عاهةٌ وجودية. ما يستحي المكانُ عن ذِكرِهِ، تعيينِهِ. لحظة اختفاء المكان مثلاً بسبب الحرب، (ضمن أسباب أُخر).
استبدالُ المكان بالذكرى والذاكرة، وتأبّي المكان وتعاليه على الإحلال، إحلاله بالذاكرة والشِعر!!
المكان ينتثر في ما يحتويه إنْ كانوا بشراً أو أشياء. ينمسخ المكان بتجريده من ما يُعرِّفَهُ ويَهِبُهُ قواماً ومعنىً كالأثاث ولونِ طلاء الحيطان، رائحة الفِراش والنِفاس والأعراس، الأنس والقمر، وحتى النميمة والوضاعة!!
لكل مكانٍ رائحة ومرايا تُميِّزُهَ عما عداه من جوار. تشحبُ الرائحة وتَفنى، وتَظلِم المرايا إنْ تبدلتْ وجوهُ الشخوص وتقطيبات الجِباه.
احتلال المكان هو هو احتلال المعنى، معنى الأشياء وتجريف الدلالات وإزاحتها إلى سديم لا يشي بشيء غير العدم والانمحاء.
للمكان هُويةٌ تميِّزُهُ وتتحدث بلسانه وإنْ تهدَّمَ وزال. هُويةٌ اكتمالُها وتمامُها في نقصانٍ لا تكتمل (الهوية) إلا به ليكون للمكان تاريخ بلا ختم انتهاء، كما لحيزات النزوح، وإنْ تطاولت ولم تتعثر دابتُها ولا انقطع رسن مقودها واختلفت الدروب.
العائدون من الحيز إلى المكان، مكانهم، تُرى أيُّ سوسيولوجيا بمقدورها أن تكون مرآةً لتغريبةِ الرجوع ذاك وهُم يتعثرون فوق نتوءٍ ترابيٍّ طفيفٍ عند عَتبةِ دارٍ عَدِمَت المكان لدفن موتاها؟!
أيُّ سوسيولوجيا؟!
نقلاً عن صفحته الخاصة في “فيسبوك”