spot_img

ذات صلة

جمع

في أعماق زمان الكُرْبَة : السودان بين الرماد والنهوض

د. أحمد التيجاني سيد أحمد حين كُتب هذا المقال لأول...

تصاعد الحرب الكارثية علي السودانيين وتقاطعات وتداعيات الأزمه أقليميا ودوليا

شريف يس اجتماع الرباعيه الذي عقدة نائب وزير الخارجيه الأمريكي...

قصف متسلسل يستهدف مواقع “الدعم السريع” في نيالا

نيالا: التحول أفاد شهود عيان ومصادر طبية في مدينة نيالا...

غياب صفوة السودان عن أزماته

جمال محمد إبراهيم

ظاهرة لم يلتفت إلى سبر أغوارها كثيرون، ممَّن ظلوا يتابعون تعقيدات أوضاع السودان هذه الآونة. ذلك أنَّ السُّودان تقلَّبَ، وهو الغريقُ في اضطرابِ أحواله منذ إسقاط نظام الإنقاذ الاستبدادي عام 2019، والذي عمّر 30 عاماً حسوماً. كان إسقاطُ النظام ابتداراً لصفحة جديدة أبصرها كلُّ حصيف، غيرَ أنَّ الزَّعازع توالتْ وَتتالتْ على أوضاع البلاد، بين تظاهراتٍ ومقاتل واختلافات تشتعل بين نُخَبٍ مدنيةٍ وعسكرية، حتى استشرفتْ الأوضاع فيها هذه الحرب الكارثية الماثلة.

لكأنَّ تدهور الأحوال ذاك لم يكن وحده الذي تسبَّب في كوارث السّودان، مِن قتلٍ ودمارٍ وتشريدٍ ونزوحٍ ولجوءٍ، فإذا أجلتَ التفاتة فاحصة، سترى أنَّ غياب قيادات من النُّخب الفاعلة وعلى المستويات كافة في السودان، شكّل ضغثاً على إبّالة تلك الأحوال. لقد أسهمتْ سنوات الإنقاذ الطويلة في إنهاك تلك النُّخَبِ التي سطعتْ نجومُها خلال حقب السُّودان في ستينيات القرن العشرين وإلى ثمانينياته. كان لها لمعان في ساحات السياسة والاقتصاد والتجارة وفي كل المجالات الاجتماعية والثقافية والعلمية، ثم كُتبَ لها اضمحلال وخفوت.

(2)

الصّفوة التي استوَتْ عيدانُها ساعةَ نال السُّودان استقلاله عام 1956، وتولّتْ نجومها، السياسيون المدنيون منهم أو العسكريون، إدارةَ أحوالِ البلاد خلال سنوات الزّعازع، لم تفلح في صقلِ جهود بناء أمّةٍ سودانية على صعيد تنوُّع ملامح أهليها، وتعدُّد انتماءاتها عربياً وأفريقياً، غير أنَّ حُسن النيات وحده ليس كافياً لتأطير نظم التعليم والإدارة وتنمية شتى القدرات المسنودة بمؤسّساتٍ تعليميةٍ وأكاديميةٍ في مختلف المجالات، أطاحَ ذلك كله أحلام استكمال البناء، فتعثَّرتْ جهود بناء أمَّة بعد خروجٍ ظافر من تجربة كولونيالية، إلى تجريب جديد لحكمٍ ذاتي، أضعفته ترّهاتُ السياسة واختلافات عقائد جماعاتها السياسية، فأقعدت بهِمّةِ صفوة قادرة عن الفعل، ليتقاصر بذلها برغم علوِّ استنارتها.

كُتبَ للسَّودان أنْ تغيب عنه القيادات الذكية، وتحلَّ بعد رحيلها، قيادات متواضعة القدرات ضعيفة التكوين

وضع مفكر سودانيٌ راحلٌ، منصور خالد، إصبعاً على مواطن ذلك الخلل البنيوي، ووصف الصَّفوة التي تولَّتْ إدارة البلاد طوال تلكم السّنوات بالفشل الذّريع، ولم يعفِ نفسه من تبعات ما وقع. ولا أجدني أميل إلى تبخيس ذلك الجيل الذي ورث التجريب الاستعماري، وفيهم من بلغ درجاتٍ عاليةً من التأهيل لقيادة مسيرة البلاد، إلا أنّي أرى جيلاً جاء لاحقاً برز أكثر في السبعينيات والثمانينيات، لم نرَ له من القُدرات ما يماثل قدرات ذلك الجيل المؤسِّس، إذ كان حظه بائساً في كل المجالات التعليمية، والثقافية، والاقتصادية، والإدارية، فتوالت الزعازع والاضطرابات على السودان.

لأقرِّبَ لكَ الصورة، عزيزي القارئ، أحيلكَ لترَى بعض إنجازات تلك الصّفوة التي شاركتْ في تأسيس البلاد بعد خروج المُستعمِر الكولونيالي منتصف خمسينيات القرن الماضي.

(3)

لجيلِ السُّودان المؤسِّس في سنوات الخمسينيات الأخيرة، وفي عقد الستينيات، فضلُ إنجاز مشروعات تنموية ذات شأنٍ وأثرٍ كبيرين في الدَّاخل لا تُنكر، خصوصاً في الزِّراعة، والمياه، والطرق، والمواصلات. أما في فضائه الخارجي، فقد كان السُّودان فاعلاً في تأسيس المنظمة الأفريقية، وفي دعم حركات التحرُّر في القارّة الأفريقية، وأيضاً في المشاركة الفاعلة في إطار الجامعة العربية. قاد رجالٌ من صفوة السودان في تلكم السنوات، جهود إنشاء بنك التنمية الأفريقي، وقيادة اللجنة الاقتصادية لأفريقيا، ولعب السودان أدوارٍاً سياسية حاسمة، مثل ما وقع إبَّان المواجهات مع العدو الإسرائيلي، ومثل أدوار السودان في مبادرة مقاطعة القارّة الأفريقية الكيان الإسرائيلي، وفي قمّة لاءات الخرطوم الأشهر. تلك إنجازات سياسية لرموز من صفوة من السودانيين، تلقوا درجاتٍ عاليةٍ من جامعات عالمية، وكسبوا تجارب واختبارات وخبرات، هيأتهم لتولي أدوارٍ قياديةٍ ذات خطرٍ وتأثيرٍ على السَّاحتين الدولية والإقليمية.

(4)

وللمقارنة، كان لافتاً أن يكون من أوّل قرارات حكم الإنقاذ الإسلاموي عام 1989 قرار قضى بإيقاف الابتعاث للدّراسة خارج السُّودان، وتبعه قرارُ إعادةِ السودانيين المبتعثين للدّراسة في الخارج إلى الدّاخل بصورةٍ فورية، ولم يلتفت أحدٌ إلى الظلم البائنِ في ذلك. والمُدهش أنَّ من أفتى بجدوى ذلك القرار عرَّابُ ذلك النظام، حسن الترابي، الذي تلقَّى تعليمه العالي، ونالَ أعلى الدرجات من جامعتي لندن والسّوربون في فرنسا.

لا مصداقية لمؤسّسات أنشأتها ثورة تعليمية كذوبة في السودان

كُتبَ للسَّودان أنْ تغيب عنه القيادات الذكية، وتحلَّ بعد رحيلها، قيادات متواضعة القدرات ضعيفة التكوين، جاءتْ بها الولاءاتُ السياسية التي سيّستْ، عبر نظام الإنقاذ، كلَّ مؤسّسات الدولة، ولم يسلم منها حتى الجيش الذي أبدلتْ معايير القومية في تأسيسه، بمعايير الولاءِ السياسي، فضعفت عند مجنديه مشاعر الولاء للوطن والأمة، فصار جيشُ الوطن جيشاً لحزب. لكَ أن ترى بعينيك حرباً تعابثَ فيها عسكريون نظاميون هنا وهناك، وولغت أصابع أجنبية فيها فيما ترك الأبرياءُ يقتلون.

(5)

ولضعفِ مؤسَّسات التعليم الدّاخلي في السودان، والذي تسبَّبتْ فيه قراراتٌ طاولتْ تلك المؤسَّسات، أنشئت جامعاتٌ في عجلةٍ تعوزها الدّراسة المُعمَّقة لجدواها، لم تفرز إلّا متعلمين بمستوياتٍ يعجز أكثرهُم عن تجييرها لإدارة أحوال البلاد بالصُّورة المرجوّة. تلك أوضاعٌ مهَّدتْ لتولِّي أصحابِ الولاء للتنظيم الشمولي الذي بناه نظام الإنقاذ، من حملة درجات أكاديمية مُزيَّفة، فانكشفتْ البيئة التي مهَّدتْ لنكوصٍ بائن، قاد إلى مفاسد استشرتْ، فتآكلتْ بنية ذلك النظام الشمولي الطغياني وانهار بنهارٍ لا بليل، تحتَ غضباتِ شعبٍ صبر على ذلك النظام ثلاثة عقود. ليس المقصد هو ترويج جامعاتٍ أوروبيةٍ أو أشباهها في أصقاع الأرض. لا ولا التقليل من جامعات وطنية سودانية. كلا، المقارنة المقصودة هي بين مؤسّسات أكاديمية رصينة وأخرى داخل السّودان مصداقيتها مضروبة، وتكاد أن تعدَّ بمستويات مدارس ثانوية، لا جامعات معتبرة.

(6)

هكذا غابتْ رموزُ صَفوةٍ سودانية حقيقيةٍ قادرة، حلتْ محلها صَفوة لا توصيف لها، سِوى أنّها نتاج اضطراباتٍ وزعازع، فلا مصداقية لمؤسّسات أنشأتها ثورة تعليمية كذوبة في السودان، ولا أمل لجامعيين يعينون في إدارة البلاد. خلتْ السَّاحات السياسية والإعلامية والاقتصادية من كلِّ مقتدرٍ ومِن كلِّ موهوبٍ، لتمتلئ من قصيري الظِلِّ والموهبة، وطويلي الألسن والادعاءات، إلّا مِن بعض مَن بلغته رحمة الله. تغيبَت صفوةٌ من رموزها سودانيون كبار رحلوا مثل محمد أحمد المحجوب وإسماعيل الأزهري والتيجاني الماحي ومحمد أحمد المرضي ومنصور خالد وعبد الماجد أبوحسبو والشريف الهندي وإبراهيم نقد والصادق المهدي. … تلك أسماء من ذلك الجيل الذي سعى إلى إكمال تأسيس البلاد، أسماءٌ لها وقع ورنين ويجلّها السودانيون.

غابتْ رموزُ صَفوةٍ سودانية حقيقيةٍ قادرة، حلتْ محلها صَفوة لا توصيف لها، سِوى أنّها نتاج اضطراباتٍ وزعازع

عن دبلوماسية السّودان الأولى، أحدِّثكَ عن بعضِ سفراء السّودان المؤسِّسين. أحدهم كادَ أن ينافس لينال منصب الأمين العام للأمم المتحدة في ستينيات القرن الماضي بعد مقتل داغ همرشولد، وذلك من قبل أن ينال المنصب وبعد 30 عاماً، أوَّل أفريقي هو كوفي عنان. ثمَّ أحدّثك عن سفيرٍ كان زميلاً وصديقاً لجورج بوش الأب، وأفلحا معاً لنقل اجتماع لمجلس الأمن من نيويورك إلى أديس أبابا مقرّ المنظمة الأفريقية سبعينيات القرن العشرين، وهو السّفير الذي مثّل بلاده في الهند وجاء برئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو ليزور الخرطوم بعد استقلال السودان ببضعة أعوام. هو سفير اسمه رحمة الله عبد الله، وكان زميلاً لنهرو في جامعة كامبريدج، ومعهما جورج بوش الأب، فتأمّل.

(7)

ماذا حدثَ للسودان فتلاشتْ صفوته، لا السياسية فحسب، بل الصحافية والإعلامية على النحو نفسه. انظر كيف غاب كبارٌ من أمثال محمد أحمد السلمابي وبشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح وأمثالهم، لتأتِي إلى السّاحة، صفوةٌ متواضعة، بمستوَى المدعو ثروت قاسم، الذي اتهم باختلاس مالِ منظمةٍ دوليةٍ في جنيف، ثم أخفى نفسه واتخذ اسماً مزوّراً وامتهنَ التحليل السياسي، ثم غيّب نفسه تماماً وانقطعتْ تحليلاته الكذوبة مثلما انقطعتْ سيرته دفعة واحدة؟

ماذا حدث للسُّودان حتى تنحدر مستوياتُ إعلامييهِ وسياسييهِ وناشطيهِ إلى درجاتٍ دنيا فلا أرغب معها أنْ اسمِّي لك بعضهم، وأنت تشهد وتسمع لغوهم، يملأ الشاشات طنيناً مزعجاً والبلاد في نكبة مثل نكبة البرامكة، أم تراها أتعس من نكبة البرامكة بعينها؟

العربي الجديد

spot_imgspot_img