د. أحمد التيجاني سيد أحمد
عندما انقلب السحر على الساحر، سقط دودلي، الحاكم العنصري الذي خُلّد اسمه في ميدان بمدينة بوسطن، لتعود دورة الزمن وتُعيد الحق إلى أهله.
ففي قلب المدينة، وتحت مباني المتحف، خرجت الآثار النوبية من مخابئها، وتبدّل اسم Dudley Square إلى Nubian Square، وتحوّلت محطة الحافلات المركزية التابعة لهيئة النقل الجماعي بولاية ماساتشوستس (MBTA) إلى Nubian Station – ليُعلن ذلك الحي انتصاره الرمزي على قرون من الطمس، ويُسجّل حضور النوبة في خرائط الوعي الأمريكي، لا كأثر باهت، بل كقوةٍ متجددة.
وصدق المعتقد بأن الله تعالى قادر على حفظ خلقه، كما سُطّر في السورة القرآنية الحكيمة: “وعلّم آدم الأسماء كلها”.
فلا يعني بقاء إبليس مقيدًا في الأرض يبث سموم الفتنة أنه سيمحو آيات الله.
ولا يعني هذا أن الأبَالِسَة الذين خرجوا من رحم إبليس — أمثال مسيلمة، وحسن البنا، وحسن الترابي، وعلي كرتي، وراشد الغنوشي، وقادة شياطين أفغانستان وسوريا والعراق وإيران، وكل من بغى وطغى متخذًا اسم الله ودينه ذريعة لقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق — ناجون من عقابه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وأحكي لكم بأنني رأيت عقاب الله في أحد أبالسته الذين عملوا على تدمير متحف السودان. ولمن لا يعرفون الكوز الذي زار المتحف إبان حكومة الصادق، ووصى بهدم “الأصنام”.
ويُقال إنه أصرّ على وزارة التربية والتعليم لإزالة حكم تأديبي صدر بشأنه، بسبب اغتصابه للأطفال، وفعل ذلك مستغلاً صلاته الكيزانية وأريحية رئيس وزراء الديمقراطية الثالثة.
لكنني، لحكمة من الله، رأيت ما آل إليه في إيطاليا، التي أتى إليها سفيرًا، ثم خرج منها سارقًا تحدثت عنه الصحف الإيطالية، وانتهى حارسًا لزوجته التي امتلكت مكانًا لبيع الخمور في لندن.
وهو الله سبحانه وتعالى، يُمهل ولا يُهمل.
وهنالك المتاحف التي عجز المصريون وسارقو الآثار ومزوّرو المستندات عن نيلها أو إخفائها عن كتب التاريخ… بما في ذلك المتحف المصري الذي لم يضير التاريخ النوبي أن قُطِع حراسه أنف أبو الهول أو رمسيس ليُخفوا جنسهما الحامي الأسود!
وما قصة فشل المرشح المصري مرتين في نيل رئاسة اليونسكو إلا دليل على خشية العالم من مزوري الآثار والتاريخ…
فلا اغتيال أستاذ التاريخ النوبي بروفيسور هيكوك في شارع النيل، وهو في طريقه إلى مكتبه في جامعة الخرطوم، أوقف اهتمام العالم بالتاريخ النوبي؛ ولا احتجاج الحكومات المصرية المتعاقبة لدى المتاحف الأوروبية والأمريكية الشهيرة أعطى لمجهودهم المخروق مدخلاً ذا نفع، بل ردّهم العالم كروّاد الخمارات الشعبية الرخيصة.
مشروع الإلغاء الرمزي
وها هم حُفّاظ التاريخ النوبي، علماء الآثار في العالم، يُعدّون العدّة للمؤتمر السادس عشر للدراسات النوبية العام القادم في ألمانيا.
هذا المؤتمر نشأ وامتد وطال واستطال على أكتاف، ومن خلال عقول وضمائر، آلاف العلماء الذين حملوا تاريخ العالم كرسالة لمعنى الخلق والبقاء.
وقد أُنشئ هذا المؤتمر ليُعقد كل أربعة أعوام منذ ستينيات القرن الماضي، للمحافظة على الآثار النوبية بعد كارثة السد العالي، الذي تسبب في إغراق الآثار والمعابد والكنائس النوبية تحت ستين مترًا تحت الماء، وإخراج أهلها كأول رهط من نازحي حروب السودان العنصرية!
وبداية “مشروع الإلغاء الرمزي” الذي انتهجته الحكومات المصرية المتعاقبة.
لم ينجح هذا المشروع، الذي يقف شاهدًا للمقولة: “ليس بالضرورة أن يبدأ كل محو بجرافة”…
وهذا هو حال المشروع العنصري الإقصائي التهميشي الذي بدأ في شمال السودان النوبي (“الرطانة – البرابرة”)، وامتد إلى شرقه (“الأداربة ومرضى السل الرئوي”)، إلى جنوبه (“العبيد والفروخ”)، وغربه (“الغرابة الزرقة”).
أحيانًا يبدأ المشروع الإقصائي بسخريةٍ من لغة، أو تندرٍ على زي، أو تجاهلٍ متعمّد لتاريخ لا يُروى في مناهج المدارس.
مشروع “الإلغاء الرمزي” هو ما فعلته نُخب المركز، نُخب دولة ٥٦ جهلًا أو قصورًا أو تطاولًا، أو لفقدان أصالةٍ وعزّة نفس، حين تواطأت مع تعريبٍ قسري، واغترابٍ عن الذات، ومسحت أعينها عن حضارات ضاربة في الجذور، لا لشيء سوى أنها لا تُشبه “عرب قريش”.
حين يُغرق السد العالي الأرض، وتُغرق النخبة ذاكرة المكان، لا يكون ذلك فعل إنماء … بل جنازة للهوية، تُشيّعها قصائد مدفوعة الثمن.
هؤلاء الجهلة الخانعون أثبتوا — مع فقدانهم للهوية — جهلهم بالقرآن وبالتاريخ.
لم يعرفوا أن قريش هم العرب المستعربة، أحفاد هاجر، الأميرة النوبية، زوجة إبراهيم الخليل الكنعاني!
و”تمخض الجبل فولد فأرًا” مقولة، تنطبق على حال غالبية مثقفي دولة ٥٦، إلا من رحم الله.
لم يقف منهم أحد كما وقف النوبي خليل فرح منشِدًا: “نحن الشرف البازخ، حماة النيل، أسود الكر”، عندما قاد النيلي الزنجي على عبد اللطيف ثورة ١٩٢٤ علي المستعمر البريطاني…
ثم ألبسوا محمد احمد بن عبدالله بن فحل رداء المهدية، واتخذوه إمامًا وقداسة، حتى أصر مؤرّخوهم على أن هذا النوبي الدنقلاوي عربي قرشي حر لا يأتيه الباطل من خلفه ولا أمامه.
يا ليت لو عاش هؤلاء الأفاكون ليدركوا ما أثبته العلم الحديث، بأن آدم خُلق من طمي أسود، مصدره شاطئ النيل الأزرق، جُلب إلى ملكوت الله، فسجدت له الملائكة.
فسجدوا لأب البشرية الأسود، والد نوح، أبو حام الأسود، وجد كوش النوبي!
اقرأوا التاريخ يا عالم، بدلًا من نثر دلالات التفوق على المحجوب، الذي أجبر “الحلبة” على فتح طاقة صغيرة لفروخ السودان في دهاليز الجامعة العربية.
ليتهم ما فعلوا، فالسودان الآن كان سيكون في مصاف الدول الإفريقية الناهضة المستقرة مثل: كينيا، إثيوبيا، رواندا، تنزانيا، جنوب إفريقيا، غانا، السنغال، كوت ديفوار، بنين… وهلمّ جرّا!
اقرأوا التاريخ يا عالم… تاريخ ملوك النوبة وبنين، وممالك تمبكتو، ونيجيريا وكوازولو ناتال بدلًا من الانتشاء بحكاية عبد الله الطيب، الذي أتى بشورت قصير (وياليته أتى برُحط نوبي ملوكي) … فحول التقزّز العربي من العُري الأوروبي إلى دهشة واحترام، لأنه تفوّق عليهم في لغةٍ متقعّرة أكل عليها الدهر وشرب.
كسرة: الحلقة القادمة: المتاحف المكتوبة – مؤرخو وكتّاب النوبة في الصحف و المنتديات وقروبات التواصل الاجتماعي .
نواصل…
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com