spot_img

ذات صلة

جمع

اختتام مشاورات نيروبي دون التوصل إلى اتفاق بشأن جبهة مدنية موسعة في السودان

حالت قضايا مثل العلمانية وتقرير المصير دون توصل المشاركين...

كسر حصار القيادة وتقدم للجيش في عدة جبهات بالخرطوم ويصد هجوماً مع المشتركة في الفاشر

الخرطوم: التحول  تفقد رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للقوات...

روسيا ومصر والإمارات ليست الدول الوحيدة التي تحاول الاستفادة من حرب السودان

جريجوري هوليوك روسيا ومصر والإمارات العربية المتحدة ليست سوى ثلاث...

العاملون والكوادر الطبية بمستشفى بشائر يدخلون في إضراب مفتوح عن العمل

الخرطوم: التحول أعلنت غرفة طوارئ جنوب الحزام، دخول الكوادر الطبية...

آخر ما كتبه الراحل د.الباقر العفيف.. رسالة للأهل والأحباء والأصدقاء

الباقر العفيف
يوم ٩ ديسمبر ٢٠٢٤،
من مستشفى جفرسون بولاية فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية
إلى أشقائي وأهلي وعشيرتي،
إخواني وأخواتي الجمهوريين والجمهوريات،
أصدقائي وصديقاتي،
زملائي وزميلاتي في مركز الخاتم عدلان،
زملائي وأصدقائي في المجتمع المدني السوداني والإقليمي والدولي،
وإلى جميع أحبائي،
وكل من دعا لي، بظهر الغيب، في مرضي،
وكل من يحمل في قلبه مشاعر طيبة تجاهي،
أحييكم وأتمنى أن تكونوا جميعا متماسكين جسديا ونفسيا وعقليا في ظل الفتن التي تقع على رؤوسنا كقطع الليل المظلم حتى أصبحنا في كل يوم نتلقى خبرا يبكينا، وهما يبلينا، واستغاثة مستغيث لا نستطيع إغاثته، فقد جفت الجيوب، وبلغت الديون الحناجر، وسُدَّت المنافذ واحدة بعد الأخرى، فأصبحنا عاجزين، وما أسوأ الإحساس بالعجز، ونرجو الله ألا يقودنا لليأس من روح الله، “إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون”.
لقد غبت عنكم، قسرا، منذ التاسع من أبريل الماضي، بسبب انتكاسة صحية تعرضتُ لها هي الأصعب منذ تشخيصي بالمرض اللعين في يونيو عام ٢٠١٨، استمرت شهرا كاملا من المعاناة المستمرة. آلام مبرحة، وغثيان أو (طُمام) وإسهال، ونزيف. وما أفرزته من نقص في السوائل أو (ديهايدريشن)، ونقص في الصوديوم والماغنيسيوم والهيموجلوبين. نتج عن كل هذا فتور الشديد وانعدام طاقة لدرجة التفكير مرات ومرات قبل القيام بالضروري من الأفعال، كالاستجابة لنداء الطبيعة. هذا رغم العناية الطبية المكثفة وإحاطتي بالأطباء والطبيبات، والممرضين والممرضات أشباه ملائكة الرحمة، والدعم الهائل الذي يحيطني به أهلي خاصة شقيقتيَّ الحبيبتين عفاف ونجاة وصهري السخي أمير إدريس، وأصدقائي في أريزونا، خاصة الصديق بكري أبوبكر وزوجته الدكتورة هالة، وابن بلدي (الحوش) وليد خالد وزوجته اللذان استضافاني وأسرتي أيضا، وبقية العقد الفريد من سودانيي أريزونا الذين أحاطوني بكرمهم الفياض واهتمامهم الذي أخجل تواضعي.
في ظرف أسبوعين ذهبت مرتين لغرفة الطواري بالمستشفى. في المرة الثانية استفرغت دما وأنا في استقبال الطوارئ أباشر التسجيل، فدفعوا بي مباشرة لغرفة العمليات وهم يجرون جريا، حيث أكمل التسجيل أثناء الإعداد للعملية داخل غرفة العمليات. في هذا الشهر أجريت لي ثلاث عمليات ببنج كامل، آخرها عملية منظار لمعالجة القرحة التي كانت سببا في نقص الهيموجلوبين، والاسهال والاستفراغ، حيث كان لابد من نقل الدم، وأخذت عشرات الدربات من مختلف السوائل والمحاليل حتى تورمت ذراعي وتعرضت لجلطة فيها ولكنها لم تخلف أي أثر والحمد لله.
ولكن بفضل من الله ورعايته، وبفضل العناية الطبية الممتازة التي يسرها الله لي، ودعوات الأهل والاصدقاء والأحباب، وصلوات كل أصحاب القلوب الطيبة النبيلة، وبعزيمة، وصبر، وصرامة وdiscipline، نميتُها خلال صراعي الطويل مع المرض، اجتزتُ تلك المرحلة الصعبة وخرجتُ منها بخسائر قليلة إذا ما قورنت بالحال التي كنت عليها، فلقد خسرت ما يقارب ثلث وزني، حتى بِتُُّّ أنكر نفسي كلما طالعتني في المرآة. وهذه واحدة من الخصائص التي يتفرد بها مرض السرطان على غيره من الأمراض، وهو أنه يغير شكل الإنسان وصورته وهويته التي لازمته طيلة الحياة، يغيرها بوتيرة متسارعة. ولعل من لطف الله على البشر أنهم لا يشعرون بالتغيير في أشكالهم رغم تقدمهم في العمر وذلك لأن التغيير يكون وئيدا، ولأن الناس يرون أنفسهم يوميا في المرآة، ويألفون شكلهم الذي يرونه، فلا يحسون بتغيير فيه.
أما مرضى السرطان فحكايتهم تشبه من بعض الوجوه حكاية درويان قري، بطل رواية “صورة دوريان قري” ، The Picture of Dorian Gray لأوسكار وايلد، التي تصف ذلك الشاب الأرستقراطي الوسيم المزهو بجمال صورته، والذي يحيط به المعجبون، ومن بينهم صديقه الرسام البارع (بازيل) الذي رسم له صورة صب فيها كل إعجابه بجمال صورته. ولما رأي الشاب صورته أصابه القلق من فكرة ضياع شبابه، وزوال رونقه وجماله، فتمنى أن يظل شابا لا يتغير، بينما تحدث جميع التغييرات في الصورة بدلا عن جسده. وهذا ما تحقق له، فثبت له شبابه، وذهبت كل التغييرات إلى صورته التي أسدل عليها ستارا وأغلقها في غرفة بعيدا عن الناس. كانت التغييرات التي تحدث على الصورة تشمل التشوهات الناتجة عن ذنوبه التي ارتكبها، وكان للشاب ضحايا كثر خاصة من الفتيات اللائي أحببنه فانتحرن عندما تخلى عنهن.
وفي لحظة ما، بعد نحو عشرين عاما، عندما أزاح دوريان قري الستار عن صورته، ورأى التغييرات التي حدثت لها طيلة تلك السنين، استبشعها حد الصدمة لدرجة أنه شرع يطعن الصورة بالسكين ليمزقها. ولكن لما كانت الصورة قد توحدت معه، انتحر، وسقط على الأرض. كان الذي سقط على الأرض رجلا عجوزا متجعدا وقبيحا، لم يتعرف عليه خَدمُه إلا من خلال خاتمه وملابسه.
بالطبع هذه صورة درامية مبدعة تحكي عن فلسفة فكرة الشيخوخة المصاحبة للإنسان كفكرة الموت. ولكنها تحمل بعض أوجه الشبه مع التغييرات السريعة التي تحدث لمرضى السرطان، فإذا بالذي يطل عليك في المرآة وكأنه شخص آخر. لقد استمعت لقصص كثير من زملاء رحلة المرض وكان هذا أمرا مشتركا بين غالبيتهم. وذكر لي عدد منهم ومنهن أنهم عندما نظروا في المرآة للمرة الأولى كانوا يستديرون للوراء ليتأكدوا أن من يرونه ليس شخصا آخر يقف وراءهم. وهذا أصعب ما يعانيه الشباب والفتيات منهن بشكل خاص. وعندما سافرت لأديس أبابا للمشاركة في المؤتمر التأسيسي لتقدم، مر أمامي عدد من الأصدقاء دون أن يحيوني لأنهم لم يتعرفوا عليَّ من أول وهلة.
تزامن مرضي مع الثورة
لقد شخصت بالمرض مع بداية إرهاصات الثورة في يونيو ٢٠١٨، ودخلت المستشفى للعملية الكبرى The Whipple Procedure في مستشفى جونز هوبكنز يوم ١٧ ديسمبر ٢٠١٨، وكانت البلد تشهد مظاهرات متفرقة منذ نهاية الأسبوع الأول من ديسمبر. وكان قد أُعلِن عن مظاهرة يوم ١٩ ديسمبر، وكانت كل الإرهاصات تدل على إنها ستكون القاصمة لظهر النظام. وبينما أنا في الغرفة قبيل الدخول لغرفة العمليات جاءني الجراح الذي سيجري لي العملية موضحا لي بالتفصيل ما سوف يقوم به، وأنها سوف تستغرق سبع ساعات أكون نائما خلالها. ولما انتهى من الشرح قال لي: “هل لديك أي أسئلة؟”. قلت له لي سؤال واحد فقط. قال: وما هو؟ قلت له كم هي النسبة المئوية في أنني عندما أنوم لا أصحو قط؟ فاندهش لسؤالي وقال لي: “نسبة ضئيلة جدا، ولكن هل لي أن أسأل لماذا سألت هذا السؤال؟” قلت له هناك حدث هام جدا في بلادي سيحدث يوم ١٩ ديسمبر، أي بعد يومين، وأريد أن أرى نسبة فرصي في حضوره”. فقال لي وما هذا الحدث؟ فأخبرته عن الثورة ضد هذا الدكتاتور الذي ظل يتحكم على رقابنا لثلاثين عاما، رغم قلة عقله وموتان ضميره، أو لربما في الحقيقة بسبب من ذلك. وإنني ظللت عمري كله أعمل من أجل أن أرى هذه اللحظة. فابتسم وقال لي “غالبا ستراها”، فقلت له “بإذن الله”. وقد سمح بالزيارة في نفس يوم المظاهرة حيث زارني عدد مقدر من الأصدقاء والصديقات في منطقة فيرجينيا وواشنطن وميريلاند وكلهم من الذين نذروا أعمارهم في النضال ضد دكتاتورية الإنقاذ فجاءوني بالأخبار السعيدة وتبادلنا التهاني، فكانت الفرحة فرحتين، فرحة نجاح العملية وفرحة نجاح المظاهرة التي قصمت ظهر النظام.
ولقد أنعشتني تلكم المظاهرة ورفعت روحي المعنوية لعنان السماء فعزمت على هزيمة السرطان في جسمي. وأن أعتبر نفسي في ميدان الاعتصام أحرس ترسين، هما عقلي وروحي، أن يظلا قويين، لا يخترقهما الأمنجية والكيزان، أو يتسرب إليهما الضعف والشك واليأس من روح الله، وهذا ما يحدث عادة لمرضى السرطان. لذلك يزورهم بانتظام رجال الدين والاختصاصيون النفسيون يسألونهم إذا ما كانت تنتابهم أفكار انتحارية. أذكر عندما جاءني أحدهم وسألني هذا السؤال كنت في حالة من الألم العام، والطمام وأوجاع الضهر من الرقدة الطوية في وضع واحد فقط، وأذكر أنه كان معي صهري وصديقي أمير إدريس، الذي كان بالنسبة لي ممرضا، وشوفيرا، ومُطعِما، ومُداوِيا، وداعما نفسيا، وكأن لسان حاله يقول “سنفعل كل ما من شأنه أن يبقيك معنا لأطول مدة ممكنة وغير ممكنة، وسوف لن ندعك تذهب وفي يدنا حيلة نبذلها. والباقي على الله”. فعندما سمعت سؤال الاختصاصي النفسي عما كانت تنتابني أفكار انتحارية، أجبته بصوت واضح وقوي: “وما الذي يحملني على هذه الأفكار البشعة؟ إنني رجل روحاني، أؤمن بقوة الصلاة والتأمل في الثلث الأخير من الليل. وأدعو الله أن يشفيني. ولقد جئت هنا لولاية أريزونا ألتمس علاجا جديدا، غير تقليدي، للسرطان. إنني أعمل بكل قواي على هزيمة المرض الخبيث في جسمي، بعد أن هزمته في عقلي وروحي. إنني عازم على التمسك بالحياة، ولا حياة إلا بعد التخلص منه. وأعني الحياة المنتجة والمفيدة، قبل أن أرحل في عمري الطبيعي، ما أمكن ووفقني ربي”. كنت ألاحظ تعبيرات الرجل الذي يبدو سعيدا بإجابتي.
فلسفة الموت
لا يجد مريض السرطان مفرا من التفكير المستمر في الموت، وهذا ببساطة لأنه كثيرا ما يقترب منه ويحدق في وجهه مرات عديدة. ومن تجربتي الشخصية خلال مرضي هذا فقد ذهبت لحافة القبر وعدت منه ثلاث مرات. لذلك لابد من تبني فلسفة للموت تطمئن لها النفس بعض الشيء.
علاقتي بالموت
اتسمت علاقتي بالموت بالرعب منه منذ طفولتي وحتى بلغت الحلم وكان موت خالي سليمان محمد أبوشارب الفجائية، وهو في ميعة صباه، أبلغ الأثر في نفسي. كنت في السنة الأولى أو الثانية بمدرسة الحوش الابتدائية (ذات الرأسين)، وهي بالقرب من منزلنا. خرجنا من الفصول على صوت بكاء حار في الفريق ورأينا النساء في الفسحة جنوب بيتنا وهن يهلن التراب على رؤوسهن، وكثير من الرجال “يجعرون”، فقد جاء خبر الوفاة حارا من الخرطوم. كان الخال بطلا من أبطال كمال الأجسام. وكانت صوره تزين جدران صالون البيت وهو في أوضاع مختلفة يعرض فيها عضلاته. كان واسع الصدر بارزه، نحيل الخصر، عاضل الأيدي والأرجل، وسيما جدا. كان يمثل عندي معنى البطولة والخلود. وكنت أرى احترام الناس له عندما يعود للحوش في مناسبات الأعياد والأفراح والأتراح. أذكر بأنني تسللت جاريا من بين أرجل النائحين والنائحات حتى دخلت الصالون، وتسمرت أما الصور على الجدران منتظرا أن ينزل لي من إحداهن. انتظرت كثيرا حتى غص الصالون بالمعزين فيئست وغادرت. ومنذ تلكم اللحظة كان يرعبني الموت لدرجة أنني كنت طيلة تلكم الفترة أتمنى أن أكون أول الراحلين من أهلي حتى لا أتعرض لمثل تلكم التجربة مرة أخرى. استمر هذا العذاب النفسي يمزقني سنين عددا، حتى وصلنا المرحلة الثانوية، ولكن مما أعانني عليه أن الموت كان قليلا، يُؤَّرخُ به. فقد كانت حبوبتي تُؤَرِّخ “بروحة سليمان ولدي” ردحا من الزمان.، وتعني بكلمة “روحة” الموت.
في المرحلة الثانوية أكثرنا من قراءة الدكتور مصطفى محمود، وكان نجما في تلفزيون السودان وكتبه ومقالاته تثير الجدل، فقرأت ما كتبه عن الموت، ولكن شرحه لتلك المعضلة لم يكن لي فيه غناء.
ولكني كنت على موعد سيغير من مجرى حياتي لما وصلنا أستاذ اللغة الإنجليزية الجديد. كان، خريجا حديثا لا يبدو أنه يكبر الطلاب كثيرا، وكان مختلفا عن بقية الأساتذة في كل شيء تقريبا، خصوصا تعامله الودود مع الطلاب، وكأنه صديقهم. وكذلك كرمه الفياض. فقد كنا نلاقي أساتذتنا في مطاعم البلدة وأنديتها بالأمسيات، فيكتشف عدد من الطلاب أن عشاءهم وطلباتهم الأخرى كانت مدفوعة بواسطة هذا الأستاذ الجديد. وكنا إذا وجدناه وبعض زملائه المقربين منه، بالمطعم أو المقهى، وعددنا محدود، يصر بأريحية تلقائية على أن نجلس معهم على ذات المائدة، ويبدأ في “الهظار” والنكات، ويشجعنا على أن نتونس معهم دون خجل أو تحفظ. هذا بالطبع إلى جانب خلقه الدمث وكفاءته الملحوظة في التدريس. وكان حبب إلينا مادة اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي. ذلك هو أستاذي الجليل مسعود محمد علي، ابن المرابيع، والذي أصبح في نهاية ثمانينات القرن الماضي زميلي بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الجزيرة، والذي امتدت علاقتي به حتى هذه اللحظة. وهو شاهد عصر على صراعي مع المرض اللعين.
في تلك الفترة كنا في رحلة مدرسية بمنطقة الدناقلة على النيل الأزرق، وكنا مستضافين في أحدى الجناين بالمنطقة. وبينما الجميع منهمكين في تحضير الطعام، وبرامج الرحلة، لاحظت أن الأستاذ مسعود، على مبعدة من الناس، يرقد تحت شجرة يقرأ كتابا. فاقتربت منه، ووجدته يقرأ كتابا عنوانه “القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري”، لمحمود محمد طه. فسألته قائلا من هو محمود محمد طه؟ فاندهش لسؤالي، وجهلي، وجلس بعد أن كان راقدا، وأسند ظهره على جذع الشجرة، ونظر لي بخيبة أمل ظاهرة، وقال لي مُقَرِّعا، أنت تعرف مصطفى محمود، الكاتب المصري، وتقرأ له، ولم تسمع بمحمود محمد طه، وهو أكبر مفكر سوداني؟ ومع هذا تعتبر نفسك شاب وطني ومثقف؟ في تلك اللحظة تذكرت بصورة غامضة أنني منذ سنوات، وأنا طفل، سمعت الناس يتحدثون عن رجل سقطت عنه الصلاة.
المهم انتهى حواري القصير مع أستاذي مسعود إلى أن سلفني الكتاب واشترط عليّ أن أعيده له بعد أسبوع واحد فقط، سواء فرغت منه أم لا، وأن آتيه بملخص للكتاب يحتوي على ما فهمته منه. استلمت الكتاب، رغم هذه الشروط القاسية، ولم أكن أعلم بأن بين دفتي هذا الكتاب يكمن خلاصي، من الخوف من الموت، ومدخلي لإحداث انقلاب كامل في مجرى حياتي. ولهذا فسوف يظل هذا الكتاب من أحب كتب الأستاذ إلى نفسي. أجهدت نفسي في قراءة الكتاب، ووجدته صعبا جدا، فهذا عالم جديد علي في كل شيء، اللغة والمفردات مثل “من مادة الفكر صنع العالم” والتفسير والتأويل”، “والتسيير والتخيير”. و”القدر وسر القدر”، لقد عانيت كثيرا مع هذا الكتاب، وكنت أعيد قراءة صفحات منه مرات عديدة دون أن أفهم شيئا. أوشكت على الاستسلام وأن أعيد الكتاب للأستاذ مسعود معتذرا له بقصور فهمي. ولكني قررت أن أواصل القراءة حتى النهاية. ولحسن الحظ وجدت بأنني أفهم بعض الأشياء كلما أوغلت في الكتاب، إلى أن وصلت الفقرة التي يرد فيها الأستاذ محمود على فكرة الدكتور مصطفى محمود عن الموت. يقول الدكتور مصطفى محمود:
“لا إله إلا الله”.. إذن لا معبود إلا الله. ولن يعبد بعضنا بعضا. ولن يتخذ بعضنا بعضا أربابا ولن نقتتل على شيء وقد أدركنا أنه لا شيء هناك.
ولن يأخذنا الغرور وقد أدركنا أننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء..
ولن نفرح بثراء ولن نحزن لفقر ولن نتردد أمام تضحية ولن نجزع أمام مصيبة فقد أدركنا أن كل هذه حالات عابرة. (وسوف تلهمنا هذه الحقيقة أن نصبر على أشد الآلام. فهي آلام زائلة شأنها شأن المسرات.
لن نخاف الموت.
وكيف يخاف ميت من الموت؟؟) انتهى حديث الدكتور مصطفى محمود..
ويقول الأستاذ محمود في الرد عليه الآتي:
“وأنت، حين تقرأه، (أي حين تقرأ حديث الدكتور أعلاه) يخيل إليك أنه يمكنك تحصيل هذا الإدراك في جلسة واحدة، أو في أيام قلائل، بعدها تملك الصبر على (أشد الآلام).
وما هو هذا الإدراك؟؟ هو إدراكنا (أننا خيالات ظل تموج على صفحة الماء)‍‍‍‍‍‍!! وهل نحن حقا خيالات ظل؟؟ أم هل نحن خلائف الله في الأرض؟؟
و(لن نخاف الموت) يقول الدكتور، ثم يردف: (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟) فهل رأيت كيف يرى الدكتور انتصارنا على الخوف من الموت؟؟ هو يراه في اليأس من الحياة، وفي اليأس من القدرة على الفرار من الموت.. (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟).. والحق غير ذلك.. فإن انتصارنا على الخوف من الموت إنما يجيء من اطلاعنا على حقيقة الموت، ومن استيقاننا أن الموت، في الحقيقة، إنما هو ميلاد في حيز جديد، تكون فيه حياتنا أكمل، وأتم، وذلك لقربنا من ربنا.. وبالموت تكون فرحتنا، حين نعلم أن به نهاية كربنا، وشرنا، وألمنا.. قال تعالى عنه: (لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد).. وإنما بالبصر الحديد ترى المشاكل بوضوح، وتواجه بتصميم…. وقد سمى الله، تبارك، وتعالى، الموت (اليقين) فقال: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) و(اليقين)، أيضا، العلم الذي لا يكاد يكون فيه شك، والذي به تتكشف الحقائق المستورة وراء الظواهر.. وإنما سمي الموت اليقين لأن به اليقين، ولأن به يتم اليقين الذي يكون قد بدأ هنا عند العارفين، وإنما يكون بدؤه بالموت المعنوي الذي هو نتيجة العبادة المجودة.. وعن هذا الموت المعنوي قال المعصوم (موتوا قبل أن تموتوا).. وقال عن أبي بكر الصديق: (من سره أن ينظر إلى ميت يمشي في الناس فلينظر إلى أبي بكر). هذا هو اليقين الذي باطلاعنا عليه، لا نتحرر من خوف الموت فحسب، وإنما به قد يكون الموت أحب غائب إلينا..
وما هو الإدراك الذي به توصل الدكتور إلى مثل هذا القول الذي قاله: (وكيف يخاف ميت من الموت؟؟)؟؟
إنه من غير شك الإدراك الذي تعطيه العقول لحقيقة الموت – الإدراك الذي يعطيه النظر – وهو إدراك قاصر، ومخيف.. فإن الموت، كما يعطيه النظر العقلي، هو، عند أكثر الناس، نهاية، به تنقطع الحياة، وتسكن الحركة، ويتصلب البدن، ويعود إلى تحلل، ونتن، ويستحيل إلى تراب.. ألم يقل الدكتور نفسه في صفحة 237: (أين كل هذا؟ تحت الردم.. انتهى.. أصبح تربا.. كان حلما في مخيلة الزمان وغدا نصبح، أنا وأنت، تحت الردم..) إن هذا هو الموت كما يعطيه نظر العقول غير المرتاضة، ولكن الموت، كما تعطيه حقائق القلوب السليمة، والعقول الصافية، فهو شيء يختلف اختلافا كبيرا.. ولا عبرة بالعقول غير المرتاضة بأدب القرآن فإن علمها ليس بعلم، لأنه يقف عند الظاهر، ولا يتعداه إلى بواطن الأمور.. وقد قال تعالى في ذلك: (وعد الله، لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم، عن الآخرة، هم غافلون) فهم لا يعلمون اللباب، وإنما يعلمون القشور، (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) ولا يكون بعلم القشور تحرير من الخوف.. هذا هو مبلغ علم الدكتور، وهو به يظن أنه (لن يخاف الموت..) ويقول، فيما يشبه البداهة، (وكيف يخاف ميت من الموت؟) ألا ترى أنك قد هونت صعبا، وأرخصت عزيزا؟؟ أني لأرجو أن تحدث مراجعة لأمرك هذا.” انتهى حديث الأستاذ.
لقد ارتحت كثيرا لفكرة أن “الموت ميلاد في حيز جديد”. فأنت تولد في ذات اللحظة التي تموت فيها. فكأنك تخلع جلدك وتواصل المسير في فضاء آخر. وهذا واحد من معاني “إنضاج الجلود” كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها”. وأذكر مرة كنا نجلس في حضرة الأستاذ وجاءت سيرة الموت فقال الأستاذ “الموت تجربة مثيرة تستحق أن تخاض”. قالها بطريقة رسخت في عقلي معنى الإثارة لدرجة كادت أن تقضي على أي آثار للخوف من الموت. وأصدقكم القول أنه في كل المرات التي قاربت فيها الموت في مرضي هذا كانت الإثارة هي الغالبة، لأن معها يجيئ انتفاء الآلام والشرور والكروب وتحقق البصر الحديد والعلم اليقين الذي لا يكاد يكون فيه شك

spot_imgspot_img