spot_img

ذات صلة

جمع

مقتل وإصابة 79 في قصف لمعسكر قوات “درع السودان” و”أبوشوك” وأحياء الفاشر

أعلنت قوات “درع السودان” بقيادة اللواء أبوعاقلة كيكل، إن...

من الانحياز إلى التواطؤ: في تفكيك موقف عبد الله علي إبراهيم

دكتور الوليد آدم مادبو ردًّا على مقال الدكتور عبد الله...

إذا حلوا دولة 56 ارتكبوا خطأ لا جريمة

عبد الله علي إبراهيم ملخص قال الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس دي تاليران متحسباً من...

موقف شعبي موحد ضد وجود البراؤون والحركات المسلحة بوادي حلفا وشكاوي من هيمنة وزير المالية على

وادي حلفا: التحول أعلن أهالي محلية وادي حلفا، بالولاية الشمالية،...

مقتل طالب في الهند أثناء دفاعه عن طالبات سودانيات تعرضن لتحرش جماعي

فاجوارا – الهند: التحول لقي الطالب السوداني محمد يوسف (25...

إذا حلوا دولة 56 ارتكبوا خطأ لا جريمة

عبد الله علي إبراهيم

ملخص

قال الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس دي تاليران متحسباً من ذيول خطف معارض فرنسي بأمر نابليون من ألمانيا إلى بلده وقتله “إنها لأسوأ من جريمة، إنها غلطة”. ووجبت الخشية أن يرهن مثل مادبو حل أزمة السودان بحل الدولة جرياً وراء عقيدة “الحل في الحل” السودانية التي ترى الخلاص من الأمر الشائك بالاستغناء عنه.

قال الشاعر الأميركي روبرت فروست لا تهدم سياجاً حتى تعرف لماذا قام أول مرة. وبدا للمرء أن المبغضين لدولة 56، ممن طابقوا بينها وبين القوات المسلحة وحكومتها، بصدد هدمها من دون أن يعرفوا منشأها الأول.

ما ضربت المسيّرات مدينة بورتسودان، الحاضرة البديل للحكومة السودانية خلال الأسابيع الأخيرة، حتى بدا لهؤلاء المبغضين أن دولتها دالت، أو في سبيلها إلى ذلك. فقال الخبير الحكومي الدكتور الوليد مادبو إن تلك الانفجارات فوق المدينة ليست انفجاراً عسكرياً فحسب، “بل صوت انهيار أخلاقي وسياسي مدوٍّ” ضرب ما بقي من وهم “السودان الرسمي”، أي دولة 56، في ما سماه “مخدعها السياسي الأخير”. وسأل، وقد ضيقت الحرب على دولة بورتسودان الخناق، “فما الذي بقي إذاً؟ لا دولة، لا جيش، لا أمن، لا مشروع سياسي” (بورتسودان: حين تتعرى الدولة على سواحلها، 7 مايو- أيار).

أقام مادبو حجته على القضاء على “دولة 56” كما يفعل كثرٌ من صفه بأنها غير حديثة خلت من “نظام مدني يحترم القانون”، فلا تكون الدولة الحديثة في رأيهم إلا بالمدنية والديمقراطية وإلا استحقت الإبادة ليستبدلوا أنفسهم دولة غيرها. وهذه محاكمة للدولة لا سند لها في علم الدولة الحديثة، فقام هذا العلم على يد العالم الألماني ماكس فيبر (1864-1920) على قاعدة نفي “الغائية” للدولة الحديثة. ففي القول إن للدولة الحديثة غاية مرتجاة منها مما تواضعت عليه الدولة الدينية التاريخية من متروكات هذا العلم.

“غائية” الدولة

جاء العالم فيبر بهذه القطيعة مع “غائية” الدولة، فعرّف الدولة الحديثة بأنها “مجتمع إنساني يزعم احتكار الاستعمال الشرعي للقوة الفيزيائية (البدنية) في مجتمع معين”، وأراد فيبر بهذا أن ينأى كعالم اجتماع عن الخوض في حكم القيمة على موضوع دراسته، أي الدولة، كأن يرهنها بالعدل أو التقوى أو الديمقراطية أو الاشتراكية. فحقها في احتكار السلاح من حقائقها وكفى. وليس من وظيفة العلم أن يقرر في أخلاقية هذه الشرعة للدولة.

فلا مكان في فقه الدولة الحديثة لما اشترطه مادبو لقيامها كـ”نظام مدني يحترم القانون” أو على أية صورة أخرى. والدولة الديمقراطية الموسومة بالعدل ليست سوى واحدة من ضروب التعاقد السياسي في الدولة الحديثة، فتكون الدولة الحديثة على حداثتها كيفما تعاقد الناس فيها. فمطلب الديمقراطية الذي تُحاكم به “دولة 56″، يتأخر من الدولة عن مطلب وجود الدولة نفسها بحسب فيبر. فبتعريف الدولة كمحتكرة للاستعمال الشرعي للقوة على الأبدان أنهى فيبر تقليد من سبقوه لدراسة الدولة، ناظرين إلى غاياتها الأخلاقية. فالديمقراطية، مهما سبحنا بحمدها، قيمة سياسية قد تنعقد الدولة من دونها. فتراود الناس في الدولة الحديثة، متى وجدت، مشاريع شتى ليست الديمقراطية، أفضل أسوأ النظم، سوى واحد منها. فهناك الدولة الديكتاتورية والشعبوية والشعبية والاشتراكية، إلى ما لا نهاية، ناهيك عن أن الديمقراطية نفسها في الدولة طيف واسع، الليبرالية واللاليبرالية والديمقراطية الاجتماعية والرئاسية والبرلمانية.

وفي مركز دائرة مطلب القضاء المبرم على “دولة 56” هو سلطانها المتطاول وعنفها الدامي في حرب أهلية بعمر استقلالها إلا قليلاً، أكلت الأخضر واليابس. وليس في أي من المذمتين ما يطعن في حداثة “دولة 56″ حتى تطلب أن يبدلك الله غيرها، فالسيطرة بحسب فيبر مشروعة وتقوم السياسة على الشوكة في وجوه توزيعها وصونها وتنقلها من يد إلى أخرى، فالسيطرة عنده مشروعة وتقع بثلاثة طرق، السيطرة، أو الغَلب التقليدي والغلب بالـ”كاريزما” التي يشيعها قائد آسر جاذب، وبالقانونية الشرعية. ومع ذلك لا يرى فيبر حجة في تسويغ الدولة بفكرة شرعيتها التي هي تعريف مادبو وشيعته للدولة الحديثة. فلا بد للمرء، في قوله، من أن يعتبر الطاعة التي يدين بها طاقم الدولة والجمهور الأوسع لجسد الدولة الكبير. فالدولة الحديثة، في قول فيبر، تنظم الغلب وتحتكر الاستخدام المشروع للعنف الجسدي كوسائل للسيطرة على بلد ما. وفكرة فيبر في العنف والسيطرة مما ألحن بها علماء لاحقون مثل الأكاديمي الأميركي تشارلز تيللي (1929-2008) الذي قال إن الدولة، ببساطة، آلة لممارسة العنف والحرب والتغنيم كحق شرعي.

العنف والدولة الحديثة

من جهة أخرى، فتظلم مادبو وشيعته من ظلم دولة 56 وعنفها المجاني هو من باب استغراب الشيء من معدنه، فالعنف كما تقدم في أصل الدولة الحديثة وهي مما يقوم بـ”الغَلب المنظم”، في قول فيبر، والذي يسوق إلى الضبط الإداري المستمر والطاعة. فعنف “دولة 56” الذي سارت به الركبان من طبيعة الوحش والاحتجاج عليه صرخة في واد. وما بقي للعلم والممارس السياسي هو أن يدرس الوسائل التي تستخدمها الدولة التي لها، دون سواها، توظيف القوة على من هم تحتها، أو ما يطلق عليه فيبر “شروط السيطرة”. فالاحتجاج نفسه على غلب الدولة وعنفها عقيم ما لم يتحرَّ هذه الشروط وينفذ إليها ويحيدها.

هدم السياج

لاح في حرب السودان مما نقلناه عن مادبو وشيعته أنهم على وشك أن يهدوا سياجاً لم يتحروا معرفة منشأه بوجهين، فجاؤوا إلى هذا الهدم مغيظين بحمولة معارضة، أو شعوائها، في تطاول لـ “دولة 56” نفسها وليست أقل دمامة منها. وبدا أنها حاربت مع ذلك دولة هي على طلاق بينونة مع فقهها. ومن ذلك أنها جعلت من مشروعها المدني الديمقراطي لدولتها المنتظرة شرط وجود للدولة، تقوم به أو تتبخر من دونه، فرهنت بذلك الدولة بغاية على غير منطوق هذا الفقه كما رأينا.

وغير خافٍ، من الجهة الأخرى، غفلة هذه الجماعة في حرب السودان عن مصائر دول سبقتها إلى حل الدولة فغادرت ولم تعُد حتى اليوم. ففي حين استبشر مادبو بسقوط “دولة 56” تحت وابل مسيّرات “الدعم السريع”، كانت هايتي في شدة من أمرها وكانت ضاقت ذرعاً بجيشها ودولته الموبوءة بالعنف والانقلابات فحلتهما عام 1994، وفي غيبة الدولة غلبت العصابات وصارت هي الحكومة. وجاء حديث مادبو عن الاستغناء عن جيش السودان ودولته والعالم ممحوناً في هايتي. فدمغت أميركا العصابتين اللتين تحكمان هايتي في يومنا كـ”منظمات إرهابية أجنبية” في سياق حربها على تجارة المخدرات. ولم تسعد منظمات الإغاثة الإنسانية بهذا الدمغ وعاقبَه لأنه سيحول دونها ودون تقديم العون إلى ضحايا العصابات أنفسهم، وهو عون سيتعذر متى استفز هذا الدمغ العصابات وركبت رأسها وحالت بين “شعبها” وهذه المنظمات. ولما أصبحت هايتي عزلاء عن دولة تقوم بأمرها تجنبها العالم. فلا أثر على أمنها حتى لكتيبة الشرطة الكينية التي أرسلت إليها في يونيو (حزيران) عام 2024 من قبل أميركا وتحت رعايتها، لا الأمم المتحدة. وتنصلت عنها دول أخرى التزمت بنصيب من تمويل البعثة الكينية. ووصف أحدهم غسل أميركا اللاتينية يدها من هايتي بأنه “عار”.

قال الدبلوماسي الفرنسي شارل موريس دي تاليران متحسباً من ذيول خطف معارض فرنسي بأمر نابليون من ألمانيا إلى بلده وقتله “إنها لأسوا من جريمة، إنها غلطة”. ووجبت الخشية أن يرهن مثل مادبو حل أزمة السودان بحل الدولة جرياً وراء عقيدة “الحل في الحل” السودانية التي ترى الخلاص من الأمر الشائك بالاستغناء عنه.

 فإذا ما اتفق لمادبو وشيعته أن خلاص السودان التاريخي في حل الدولة التي لم يعرفوا لماذا قامت في أول أمرها كما رأينا، ارتكبوا ما هو أسوأ من الجريمة، ارتكبوا الخطأ.

spot_imgspot_img