نيكولاي ملادينوف
يشهد السودان، وهو دولة عربية مهمة وواحدة من أكبر الدول الأفريقية، حربًا أهلية طاحنة ناجمة عن تحديات داخلية طويلة الأمد. فقد أدت سنوات من عدم الاستقرار السياسي وضعف الحكم والتناحر العسكري إلى صراع مدمر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
وبينما تجري محاولات لإلقاء اللوم عن النزاع في قضية السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة في محكمة العدل الدولية، فإن المشكلة الأساسية تبقى أن النزاع في السودان هو نزاع داخلي، سببه فصائل داخلية تعطي الأولوية للسلطة على مصالح الشعب السوداني.
وتستند المزاعم التي قدمها السودان في محكمة العدل الدولية إلى تقارير تقوم على ظروف معينة، ولم يتم التحقق منها. فبموجب القانون الدولي، يتطلب إثبات التواطؤ في الإبادة الجماعية إثبات العلم والنية، وهي معايير صارمة محددة في الأحكام التاريخية مثل قضية الإبادة الجماعية في البوسنة. لا تفي اتهامات السودان بهذه المعايير، مما يثير المخاوف من أن محكمة العدل الدولية تُستخدم كأداة سياسية أكثر من كونها منتدى للعدالة المحايدة.
إن المرتكبين الحقيقيين لجرائم الحرب في السودان هم المنخرطون مباشرة في القتال. فقد ارتكب كل من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي، حيث شنت المجموعتان هجمات عشوائية، واستهدفت المدنيين، وأعاقت وصول المساعدات الإنسانية، وانخرطت في أعمال عنف جنسي، وعمليات قتل على أساس عرقي، وتدمير البنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات والأسواق.
في الأشهر الأخيرة، ضاعفت تحالفات القوات المسلحة السودانية مع العناصر الإسلامية المتطرفة المرتبطة بالنظام السوداني السابق من المخاطر. فقد ذكرت وسائل الإعلام الدولية أن ما لا يقل عن 6000 ضابط مخابرات سابق من عهد عمر البشير يقاتلون الآن إلى جانب وحدات القوات المسلحة السودانية.
ويخاطر هذا التحالف بخلق ملاذ للجماعات المتطرفة بالقرب من البحر الأحمر، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية واقتصادية هائلة للعالم العربي. مثل هذا التطور يمكن أن يزيد من خطر عدم الاستقرار في الدول العربية المجاورة، بما في ذلك في القرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية، من خلال انتشار الإيديولوجيات المقترنة بالعنف وتهريب الأسلحة وزعزعة استقرار طرق التجارة، كما أن وجود عناصر متطرفة في الجانب الغربي للبحر الأحمر سيشكل تهديداً آخر للبنية التحتية للموانئ، وممرات الشحن التجارية، وأمن الطاقة الإقليمي، وهي قضايا محورية للمصالح الاقتصادية والوطنية للعالم العربي.
وإذا ما تُركت حالة عدم الاستقرار هذه من دون حلول، فقد تصبح نقطة انطلاق لهجمات أو تسلل عبر المنطقة، مما يزيد من تصدع البيئات الأمنية الهشّة أصلاً في المنطقة. ولا يمكن المبالغة في أهمية العمل العربي المنسق لاحتواء هذا الاتجاه وعكس مساره. فإذا استمر الصراع من دون رادع، فإن السودان يخاطر بالانزلاق إلى انهيار كامل للدولة على غرار الوضع في اليمن.
إن قضية السودان أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الإمارات العربية المتحدة هي مؤشر لاتجاه مثير للقلق وهو: تسييس الآليات القانونية الدولية. فعندما تُستخدم المؤسسات القانونية للمناورات الدبلوماسية، فإن ذلك يقوض مصداقية الادعاءات الحقيقية بالفظائع، ويصرف الانتباه عن الجناة الحقيقيين: القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وبدلًا من الانخراط في المسرحيات القانونية، يجب على قادة القوات المسلحة السودانية الالتزام بالحوار وتهدئة الأوضاع.
والمقارنة بين هذه القضية وقضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل مقارنة مضللة. فالوضع بين إسرائيل وفلسطين ينطوي على احتلال طويل الأمد ونزاع إقليمي معترف به دوليًا، مع سيطرة عسكرية مباشرة ومستمرة على السكان.
في المقابل، فإن مطالبات السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة غير مباشرة، وتتوقف على مزاعم لم يتم التحقق منها وروابط واهية. إن الخلط بين هاتين الحالتين لا يهدد فقط بتشويه المعايير القانونية المحيطة بالإبادة الجماعية، بل أيضًا بتحويل العدالة الدولية إلى مسرح للمناورات الدبلوماسية، وبالتالي تقويض شرعية النضالات الحقيقية ضد الاحتلال والعنف الذي ترتكبه الدول.
قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وشركاء إقليميون آخرون مساهمات مهمة في جهود الوساطة والدعم الإنساني. فمنذ أبريل 2023، قدمت دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من 600 مليون دولار من المساعدات، بما في ذلك المواد الغذائية والإمدادات الطبية والمساعدات اللوجستية للمجتمعات النازحة. ويضيف هذا إلى سجل طويل من الجهود الإنسانية في السودان، حيث بلغت قيمة المساعدات أكثر من 3.5 مليارات دولار على مدى العقد الماضي.
إن الحل العسكري للأزمة السودانية غير واقعي. فما نحتاجه بشكل عاجل هو وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار لمنع المزيد من الانهيار. إن استمرار القتال لن يؤدي إلا إلى تعميق المعاناة الإنسانية، وخلق فراغ خطير في السلطة، والسماح للجهات المتطرفة بتوسيع نفوذها، مما يهدد ليس فقط السودان، بل الدول المجاورة والأمن الإقليمي على طول البحر الأحمر.
في وقت تتغير فيه التحالفات الجيوسياسية العالمية، وتشتد فيه المنافسة متعددة الأقطاب، فإن الوحدة العربية ضرورية أكثر من أيّ وقت مضى. فتشرذم المواقف العربية إزاء النزاعات مثل السودان لا يضعف القدرة على التأثير على النتائج فحسب، بل يدعو أيضًا القوى الخارجية إلى تشكيل مستقبل المنطقة. يجب أن تشكل الدبلوماسية العربية المنسقة، المدفوعة بالمصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة، العمود الفقري لحل النزاعات الإقليمية. ويمثل السودان اختبارًا، ليس فقط للمسؤولية الأخلاقية، بل لما إذا كان العالم العربي قادرًا على الارتقاء إلى مستوى تحدي العمل الجماعي في نظام دولي سريع التغير.
يجب على الأطراف المتحاربة في السودان إنهاء العنف، وبدء حوار وطني شامل، وتشكيل حكومة بقيادة مدنية. ويجب على هذه الحكومة الجديدة توحيد البلاد وإعادة بناء المؤسسات الوطنية، بما في ذلك جيش محترف خالٍ من سيطرة الميليشيات أو السيطرة الإيديولوجية. ولا يمكن للسودان الخروج من هذه الأزمة والمضي قدمًا نحو السلام وإعادة الإعمار إلا من خلال حكم شرعي وشامل للجميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نيكولاي ملادينوف – المدير العام لأكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية في أبوظبي، وباحث غير مقيم في معهد واشنطن للشرق الأدنى. شغل منصب وزير الخارجية ووزير الدفاع في بلغاريا، ومبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون العراق، وعملية السلام في الشرق الأوسط.
المصدر: النهار