spot_img

ذات صلة

جمع

«من رحم واحد» إلى خندقين متقابلين: الفاجعة التي فجّرتها « الحرب »

فيتشر - بهاء الدين عيسى في مشهد يلخّص مأساة الحرب...

البرهان: الحرب ضد “المليشيات” وليس “القبائل” والحديث عن إدارة الإسلاميين للمعارك ” مجرد أكاذيب”

بورتسودان: التحولشدد رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان،...

السودان: أي مستقبل لاتفاق جوبا؟

د. مدى الفاتح

التغيير السياسي، الذي كان حدثا في الخرطوم في أبريل 2019 أكمل عامه السادس. من ناحية السلطة، لعبت وثيقتان الدور الأهم في رسم هياكل الفترة الانتقالية، التي كان يفترض أن تكون قصيرة، ومفضية إلى انتخابات تشريعية ورئاسية. الوثيقة الأولى هي ما سميت بـ»الوثيقة الدستورية» وهي بعبارة أخرى الدستور الحاكم للعملية السياسية الانتقالية. أما الثانية فهي المعروفة بـ»اتفاق جوبا»، المتعلق بمنح حركات إقليم دارفور المتمردة نصيباً من السلطة، شرط أن تتوقف عن تصويب سلاحها نحو الدولة.
منذ عام 2019 سرت مياه كثيرة تحت الجسر وتغيرت موازين القوى، وحتى شكل الدولة، خاصة بعد اندلاع الحرب، التي أعادت تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي، إلا أن الثابت الوحيد على المسرح، ظل هاتين الوثيقتين، اللتين ما تزالان محل تقدير عند الطبقة السياسية. من المشتركات التي تجمع بين كل من الوثيقة الدستورية واتفاق جوبا، كونهما لم تأتيا من القواعد، وإنما كانتا نابعتين من هرم السلطة، ونتيجة لتقديرات خاصة لم يتم فيها أخذ رأي المعنيين من عامة الشعب. لم تكن عين المشرع في الحالين تنظر إلى الداخل، بقدر ما أنها كانت تحاول كسب رضا الخارج. وفقاً لهذا فقد جاء الدستور مخاطباً احتياجات وهواجس المجتمع الدولي، والدول الغربية الراعية للمجموعة السياسية، التي احتكرت الحديث باسم المدنيين حينها، فيما جاء اتفاق جوبا كاستجابة للضغوط السياسية والعاطفية، التي كانت تقول إن أي ثمن يدفع مقابل تحقيق سلام دائم هو ثمن بخس.
اتفاق جوبا، الذي حصل على مساندة جهات عدة حظي بقدر كبير من الانتقاد أيضاً، وبين هذا وذاك ظلت هناك نقطتان لا يمكن الخلاف حولهما. الأولى هي أن هذا الاتفاق كان يمثل انتصاراً لنظرة المظلومية والابتزاز، التي كانت مبنية على أن إقليم دارفور يعاني من تهميش متعمد، وأنه يستحق وفقاً لذلك أن يتلقى تمييزاً إيجابياً وتمثيلاً أكبر، ولو على حساب بقية المناطق والمكونات. النقطة الأخرى هي أن هذا الاتفاق كان أشبه بالتواصي المغلق، حيث شكلت أطراف دارفورية محضة مثلث أضلاعه الرئيسية، التي كان على رأسها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، المتمرد الحالي على الدولة، ونائب رئيس المجلس السيادي السابق، الذي تم تكليفه بمتابعة الاتفاق، على اعتبار أنه كان مسؤول ملف السلام. كان حميدتي مشاركاً بسهم هرم السلطة، ولكونه كان نائب رئيس المجلس السيادي وهي الصفة الغريبة والمنبتة لكونها لم تدرج حتى في «الوثيقة الدستورية». الضلع الثاني كان محمد حسن التعايشي عضو مجلس السيادة، وأحد كوادر «قوى الحرية والتغيير»، التي كانت تحتكر تمثيل المدنيين والمهنيين في السودان. التعايشي، الذي تربطه صلات بحميدتي، والذي اقترب أكثر من «الدعم السريع» لدرجة أنه كان من المرشحين للحكومة، التي كان التمرد يعتزم إعلانها بالموازاة مع الحكومة القائمة، كان أيضاً من الإقليم. أما الطرف الثالث فكان الحركات المسلحة الدارفورية وأبرزها تلك المنتمية لمجموعة «الزغاوة» العرقية، التي ستصبح المستفيد الأكبر من الامتيازات، التي قدمها ذلك الاتفاق، لاسيما بعد تعاظم دورها عقب اندلاع الحرب وعقب إعلان ولائها للدولة ومشاركتها إلى جانب الجيش. هذه الحركات، التي ستبقى على الحياد لفترة، قبل أن تقرر القتال إلى جانب الدولة، تحت مسمى «القوات المشتركة» سوف تكون أكثر فعالية في معارك إقليم دارفور وسوف تساعد على تحقيق نجاحات، كما فعلت بتاريخ الحادي والعشرين من ديسمبر الماضي بتحريرها قاعدة «الزرق» الاستراتيجية في شمال دارفور، ذلك الاجتياح، المترافق مع أنباء فرار بعض أفراد عائلة دقلو، أشعل وقتها وسائل التواصل الاجتماعي، وأعاد الثقة في القوات، التي كانت متهمة بأن مشاركاتها العسكرية في مناطق الوسط ضعيفة.

منذ عام 2019 سرت مياه كثيرة تحت الجسر وتغيرت موازين القوى، وحتى شكل الدولة، خاصة بعد اندلاع الحرب، التي أعادت تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي، إلا أن الثابت، ظل وثيقتين، ما تزالان محل تقدير الطبقة السياسية

بالغ أنصار الحركات في تضخيم أهمية قاعدة «الزرق»، التي ساهمت «القوات المشتركة» في الاستيلاء عليها، كما حاولوا بعد ذلك بأسابيع نسبة ما حصل من تحرير لمدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، لهذه القوات مع تقليل دور المشاركين الآخرين في تحقيق ذلك الانتصار. من مفارقات اتفاق جوبا الأخرى هي أنه ظل صامداً، على الرغم من تلاشي قواعده، فلا حكومة «الحرية والتغيير» صارت هنا ولا الحركات نفسها، التي انشق بعضها مجدداً عن سلطة الدولة صارت هي الحركات الموقعة، إلى جانب المفارقة الأكبر وهي أن الراعي الأول لذلك الاتفاق، الذي لا يسمح اليوم بالاقتراب منه، كان حميدتي. على الرغم من التحفظات والانتقادات، إلا أن الاتفاق لم يتعثر، ولم تتغير امتيازات ممثلي الحركات الموالين للحكومة، على الرغم من تغير الظروف والأحوال. على العكس تمددت الامتيازات والحصص، ليشغل أولئك أهم مناصب الدولة وليتحكموا بشكل واضح في قراراتها بما يخدم مصالحهم الآنية والمستقبلية في بلد ليس فيها انتخابات أو برلمان أو طريقة مشروعة للتعبير عن الرفض. الحركات، التي كانت في أضعف حالاتها وكانت تعيش أزمة تمويل وتسيير، وجدت ضالتها في هذا الاتفاق، الذي يمكنها عبره أن تواصل التجنيد والتمدد، وأن تحصل على الدعم والسلاح من موارد الدولة، بما يساعدها على ترتيب صفوفها ويمنحها مكانة أهم في الميزان السياسي. يعتبر نقاد الحركات، أن كلمة «مشتركة»، التي تستخدم كعنوان بديل، ليست سوى كلمة خادعة وأن هذه القوات ليست مشتركة وليست قومية، بل تنتمي في قياداتها وفي غالب عساكرها إلى مكوّن واحد من قبيلة «الزغاوة»، التي تمثّل بدورها نسبة لا تكاد تذكر من نسب سكان السودان.
في سودان اليوم يتهم من يشيرون إلى هذا الوضع المتعلق باحتكار السلطة من قبل أقلية عرقية معسكرة، في بلد لديه حساسية فائقة حينما يتعلق الأمر بتوزيعات السلطة والثروة بالعنصرية، خاصة حينما يلفت أولئك الانتباه للخلفيات القبلية المتشابهة لوالي الخرطوم ولستة وزراء آخرين من إجمالي أربعة عشر وزارة اتحادية، إضافة إلى مناصب أخرى في الدولة ومناصب كانت مقترحة بجدية، كمقترح حكومة ولاية الجزيرة، أو كمجلس الأمن والدفاع، الذي كان سيعطي أهمية أكبر لقادة الحركات، بما ينازع سلطات المجلس السيادي. الحقيقة هي أنه، وفي الوقت الذي تعامل فيه وزارات مهمة كغنيمة سياسية، فإن كثيراً من سكان وسط وشمال وشرق السودان، الذين يمثلون الغالبية الوازنة والثقل الحضاري يشعرون بالتغييب، يتسبب ذلك في جعل أولئك يشعرون بأنهم يعاملون معاملة الأقلية المهمشة، إرضاء للحركات المتمردة السابقة، التي لا تتوقف عن طلب المزيد والتلويح بخطابها القديم عن المركز والهامش.
يذكّر هذا بما كان يحدث قبيل انفصال جنوب السودان، حيث لم تنفع كل الامتيازات، التي منحت للقيادات الجنوبية والتي وصلت حد منحهم حكم الجنوب كاملاً ومشاركتهم في حكم بقية السودان، في أن تحقق هدف «الوحدة الجاذبة». اليوم أيضاً يمنح المتمردون السابقون امتياز التفرد بحكم إقليم دارفور مع المشاركة في حكم بقية أنحاء السودان عبر منح الوزارات والمناصب. بعكس الحركات الجنوبية الانفصالية السابقة ترى حركات الزغاوة، أن الخيار الأفضل بالنسبة لها حالياً هو الوحدة، فمصلحتها لا تتحقق بالانغلاق في إقليم دارفور الفقير، الذي يعاني من أزمة أمن واستقرار مزمنة لا يتوقع أن تنتهي في تاريخ قريب. أزمة الاستقرار هذه تهدد الأقلية «الزغاوية» بشكل خاص، بما يجعلها تفقد جميع المكاسب، التي تحصلت عليها ببقائها في الخرطوم.


كاتب سوداني

المصدر: القدس العربي

spot_imgspot_img