حمّور زيادة
يقول الرحّالة محمّد بن عمر التونسي (1789-1857)، في كتابه “تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان”: “بيت سلطان الفور في بلده المسماة بالفاشر”. وقد كان لكلّ سلطان فاشر، حتى فاشرنا التي نعرفها اليوم. تبدو مدينة الفاشر في التاريخ مختلفة عن المدينة التي يعرفها العالم اليوم؛ العالم الذي قبل عام ربّما لم يكن قد سمع بسلطنة قديمة في غرب دولة مدفونة بين الهامش العربي والهامش الأفريقي.
ورغم أنه في دارفور كانت المذبحة الأشهر في العالم عقوداً، إلى درجة جعلت الإقليم الملتهب والمنكوب بالمذابح الجماعية والتطهير العرقي منذ العام 2003 أشهر من السودان، لكنّ هذه الشهرة لم تُلقِ أيَّ ضوء على تاريخ المدينة والإقليم، وظلّت الصورة العامّة هي صورة نازحين امتصّهم الجوع وذبلوا من المعاناة، يرتاحون على الأرض وقد عجزوا عن الحركة، وعيونهم التي لا تكاد ترى معلّقة بالسماء تخشى الـ”أنتونوف” (طراز طائرة).
يصفها نعوم شقير في كتابه “تاريخ السودان” (تحقيق محمّد أبو سليم، دار الجيل، بيروت، 1981) بقوله: “بلدة متّسعة قائمة على تلَّين عظيمَين، يعلوان 2350 قدماً عن سطح البحر ويخترقها خور تندلتي، أسسها السلطان عبد الرحمن وجعلها عاصمة ملكه. فصارت كرسيّ سلطنة الفور إلى اليوم”.
انضمّت الفاشر إلى الدولة السودانية الوليدة على يد الزبير باشا رحمة، فأصبحت جزءاً من “السودان المصري”، ثمّ في عام 1884 وصلتها الثورة المهدية، فثار سلطان الزغاوة وشيخ الماهرية وزعماء من الزيادية وغيرهم، ووصفهم آخر حاكم للفاشر بقوله “هبّ للثورة جلّ أهل الدار من حَضَرٍ وبادية”، لكنّ عنف المحتلّ قمع الثورة، إلى حين، حتى اضطر الاحتلال لاحقاً أن يسلّم المدينة للمهدية.
مرّت المدينة بتاريخ مثير بعد ذلك، إذ عاد إليها سليل آخر سلاطينها ليعيد إحياء مُلك أجداده بعد أن سقطت الدولة المهدية، وظلّت تلك المملكة شبه مستقلّة، تدين بالولاء إلى الباب العالي العثماني، وتدفع جزيةً لحكومة الاحتلال الثنائي في الخرطوم، وترسل الكسوةَ إلى الكعبة المشرّفة، حتى أخطأت السلطنة في تقدير الحسابات الدولية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فدعم السلطانُ علي دينار الدولةَ العثمانية، فأصبح سلطان دارفور موالياً لمحور دول المركز (الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا)، في مواجهة قوات الحلفاء (الوفاق الثلاثي: المملكة المتحدة وأيرلندا والجمهورية الفرنسية الثالثة والإمبراطورية الروسية)، وكان التحالف الذي يقاتل ضدّ الدولة العثمانية يضمّ قوات الثورة العربية في الجزيرة العربية، إذ كانت فكرة القومية والتحرّر من الحكم التركي غالبة، فظهر موقفُ سلطان الفاشر مخالفاً للتوقّعات، لذلك دفع الرجل حياته ثمناً وهو يقاتل ضدّ دخول القوات البريطانية إلى عاصمة أجداده.
تخوضُ فاشر السلطان اليوم معركةً أخرى؛ معركة لم تُجْدِ معها نفعاً أصواتُ العقل كلّها التي ناشدت قوات الدعم السريع أن تفكّ الحصار عن المدينة، ولا نَفعت تهديدات المجتمع الدولي التي كان آخرها إدانة مجلس الأمن اعتداءات “الدعم السريع” على المدينة. تصرّ “الدعم السريع” على المضيّ في جريمتها، وتزعم أنها منحت السّلام فرصةً لكنّ الجيش رفض، في إشارة إلى أسابيع الحرب الأولى، التي انشغل فيها جنود المليشيا بنهب منازل الخرطوم، ومحالّها، وشركاتها، ومصانعها.
في ذلك الوقت كانت مفاوضات جدّة تعقد، بينما الطيران الحربي يواصل القصف، وجنود “الدعم السريع” يستجوبون المواطنين بحثاً عن ممتلكاتهم الثمينة، وفي نهاية اليوم، يجلس كلّ طرف على كومة من الجثث، ويوجّه اتهام خرق الهدنة لخصمه.
اليوم تقتل قوات الدعم السريع مدينة الفاشر المحاصرة، وهي توجّه الاتهام للحركات المسلّحة الموجودة داخل المدينة: “إننا نقتلهم لأنهم يرفضون أن يسلمونا المدينة”، لكن كيف يستسلم الذين يعرفونَ أن مصيرهم الموت كلّهم بلا تمييز؟ مَن منهم لم يختبر قوات “الدعم السريع”، التي نكّلت بهم وبقبائلهم وبقُراهم في حماية الجيش السوداني وبالتنسيق معه، عندما كان يعتبرهم حواضن للتمرّد، أمّا مقاتلوهم فمتّهمون بأنهم “عملاء إسرائيل”، المرتزقة القادمون من تشاد، الذين سيكرّرون مأساة زنجبار.
المحظوظون الذين لم يدركوا تلك الحرب عاشوا نازحين في مخيّم زمزم عند مدينة الفاشر، فتطاردهم “الدعم السريع” اليوم، وقد أصبحت العميل المرتزق القادم من تشاد ليبيد السودانيين لصالح عرب الشتات، هؤلاء عرفوا مذابح المليشيا في الجنينة، وقتلهم المساليت، خبروا هذه السكّين جيّداً، فقرّروا ألّا تدخل عليهم مرّة أخرى، لكنّ القائد الثاني لقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو، لا يفهم ذلك، يبدو مُحتاراً: “لماذا لا يسلّموننا المدينة لنقتلهم؟”
الفاشر مذبحة كبرى يعلَم الجميع أنها آتية، ولا يبدو أحدٌ مشغولاً بمنعها، كأنما هي دماء ستفيد الأطراف كلّها.