زهير عثمان حمد
شهد العالم خلال العقود الأربعة الأخيرة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، أبرزها صعود النيوليبرالية كإطار فكري وهيكلي أعاد تشكيل السياسات الاقتصادية العالمية. ظهرت النيوليبرالية بوصفها حركة ثورية محافظة، سعت إلى إعادة صياغة دور الدولة في الاقتصاد، وتقليص تدخلاتها لصالح إعلاء شأن السوق وقيمته المطلقة. غير أن التغيرات العالمية الأخيرة، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية المتكررة، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وتزايد الانكماش الاقتصادي، دفعت إلى إعادة تقييم هذا النموذج، وطرحت تساؤلات عميقة حول استمرارية النيوليبرالية وقدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة.
الجذور التاريخية للنيوليبرالية
ظهر الفكر النيوليبرالي في منتصف القرن العشرين كرد فعل على تدخل الدولة المتزايد في الاقتصاد، والذي بلغ ذروته في السياسات الكينزية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. شكّلت تلك الحقبة ذروة “دولة الرفاه” التي اعتمدت على تدخل الدولة في إدارة الاقتصاد وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن مع تفاقم الأزمات الاقتصادية في السبعينيات، مثل الركود التضخمي وأزمة النفط، برزت أصوات المحافظين الاقتصاديين، أمثال ميلتون فريدمان وفريدريش فون هايك، داعية إلى تقليص دور الدولة وإطلاق العنان لقوى السوق لتحقيق النمو والازدهار.
هذا الفكر وجد تجسيده السياسي في سياسات قادة مثل مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في الولايات المتحدة. لقد أعاد هؤلاء القادة صياغة دور الدولة من راعٍ اقتصادي واجتماعي إلى جهة تركز على تشجيع المبادرة الفردية وتحرير الأسواق من القيود التنظيمية. كان الهدف هو بناء نظام اقتصادي يعتمد على المنافسة المفتوحة باعتبارها المحرك الأساسي للابتكار والتنمية.
الصراع بين المحافظين والتجديديين في الفكر الليبرالي
لم يكن الانتقال إلى النيوليبرالية سلسًا أو موحدًا، بل شهد صراعًا داخليًا بين التيارات المحافظة والتجديدية. المحافظون دافعوا عن عودة القيم التقليدية للسوق الحر، معتبرين أن تدخل الدولة يؤدي إلى تشويه الحوافز الاقتصادية وتقويض النمو. أما التجديديون، فقد حاولوا المزج بين قيم السوق الحر ومتطلبات العصر الحديث، بما في ذلك الاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية.
لكن الهيمنة الفكرية للمحافظين جعلت النيوليبرالية تتحول من مشروع فكري إلى أيديولوجيا جامدة، تقوم على تقليص الضرائب، وتحرير الأسواق، وتقليل الإنفاق الاجتماعي. هذه السياسات، رغم نجاحها في تعزيز النمو الاقتصادي في بعض الفترات، أدت إلى تفاقم التفاوت الاجتماعي وزيادة هشاشة النظام الاقتصادي العالمي.
الأزمة العالمية وأزمة النيوليبرالية
مع دخول القرن الحادي والعشرين، بدأت النيوليبرالية تواجه تحديات متزايدة. كانت أزمة 2008 المالية العالمية نقطة تحول رئيسية، حيث كشفت هشاشة النظام القائم على تحرير الأسواق بشكل مفرط. في أعقاب تلك الأزمة، تضاعفت الأصوات التي تنادي بضرورة إعادة التفكير في دور الدولة والأسواق، خاصة مع تفاقم التفاوت الاقتصادي وازدياد نفوذ الشركات الكبرى على حساب الديمقراطية والمساواة.
زاد من تعقيد المشهد الاقتصادي والسياسي صعود قادة شعبويين ومستبدين في مختلف أنحاء العالم، الذين استخدموا أزمات النظام النيوليبرالي لتبرير سياساتهم الاستبدادية. هؤلاء القادة استغلوا الغضب الشعبي ضد النخب الاقتصادية والسياسية، التي يُنظر إليها كأداة لترسيخ النيوليبرالية، لإعادة بناء سلطتهم على أسس قومية وشعبوية.
أحدث الكتابات حول نهاية النيوليبرالية
في السنوات الأخيرة، تصاعدت الكتابات التي تتحدث عن “نهاية النيوليبرالية” بوصفها أيديولوجيا مسيطرة. يشير المفكرون إلى أن النيوليبرالية فشلت في تقديم حلول لأزمات العصر الحديث، مثل التغير المناخي، والأزمات الإنسانية الناتجة عن الحروب والهجرة، والانكماش الاقتصادي. الباحث ديفيد هارفي، على سبيل المثال، يرى أن النيوليبرالية لم تكن سوى مشروع سياسي لإعادة توزيع الثروة لصالح النخب على حساب الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
أما الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي، فيرى أن النيوليبرالية أضعفت الديمقراطية وأفرغت المؤسسات السياسية من قدرتها على تلبية تطلعات الشعوب. بالمقابل، يبرز الاقتصادي توماس بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين كيف أن سياسات السوق الحر أسهمت في إعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي بصورة متطرفة، مما يهدد استقرار المجتمعات على المدى الطويل.
الرؤية الاشتراكية البديلة
على الجانب الآخر، تجدد الاهتمام بالفكر الاشتراكي كبديل للنيوليبرالية. الاشتراكية تقدم نموذجًا يركز على العدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة، وتعزيز دور الدولة في حماية الفئات الهشة. يدعو الاشتراكيون إلى سياسات مثل زيادة الإنفاق العام على الخدمات الأساسية، وتنظيم الأسواق لمنع الاحتكار، وتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة.
لكن الاشتراكية ليست مجرد نقد للنيوليبرالية، بل تقدم رؤية شاملة للمجتمع تقوم على التضامن والتعاون بدلاً من المنافسة الفردية. في هذا السياق، يدعو مفكرون مثل جوزيف ستيجليتز إلى تبني نموذج اقتصادي جديد، يجمع بين كفاءة الأسواق وضرورة تدخل الدولة لتحقيق أهداف اجتماعية مستدامة.
مستقبل النيوليبرالية في عصر العولمة
العولمة، التي كانت الحاضنة الأساسية لصعود النيوليبرالية، تشهد اليوم تحولًا جذريًا. تراجع النظام الليبرالي العالمي القائم على القواعد، وصعود النزعات القومية، يشيران إلى أن العالم قد يدخل مرحلة جديدة تتطلب إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن للنيوليبرالية أن تتكيف مع هذه التحولات، أم أنها ستتلاشى لتحل محلها نماذج جديدة؟
قد يكون الحل في تطوير نموذج هجين، يمزج بين مزايا النيوليبرالية والاشتراكية، مع التركيز على القضايا الملحة مثل الاستدامة البيئية، والعدالة الاجتماعية، وتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء. هذا النموذج قد يكون السبيل الوحيد لتجنب انهيار النظام الاقتصادي العالمي، وتحقيق توازن جديد بين السوق والمجتمع.
النيوليبرالية، التي هيمنت على الفكر الاقتصادي العالمي لعقود، تواجه اليوم اختبارًا مصيريًا. الانكماش الاقتصادي، وتصاعد التفاوت الاجتماعي، وصعود القومية، جميعها مظاهر لأزمة أعمق تتعلق بفشل هذا النموذج في تحقيق التوازن المطلوب بين السوق والإنسانية. في المقابل، تقدم الاشتراكية رؤية بديلة ترتكز على العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الهشة.
بينما يستمر الجدل بين المحافظين والتجديديين، يظل التحدي الأكبر هو كيفية بناء نظام اقتصادي عالمي جديد يحقق التوازن بين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي. النيوليبرالية ليست نهاية التاريخ، لكنها بالتأكيد فصل مثير فيه، وما سيأتي بعدها قد يحمل بذور عالم أكثر عدالة واستدامة
zuhair.osman@aol.com