حسن عبدالرضي الشيخ
في خضم الحرب المستعرة التي تلتهم البلاد بلا هوادة، تتجلى مأساة التعليم والمعلمين في السودان بأبشع صورها، إذ أصبح المعلم الذي كان يومًا رمزًا للمعرفة وصانع الأجيال ضحية للظلم والتهميش، بل والاستهداف الممنهج الذي يهدد حياته وكرامته.رحلات السودان
يا للحسرة! ويا لبشاعة مشهد المعلمين وهم يعانون الفقر والتجاهل! لم يعد حالهم يختلف عن حال الفقراء والمشردين، فمع تدهور الأوضاع الاقتصادية، لم تعد رواتبهم تكفي لسد احتياجاتهم الأساسية، وبدلًا من أن يُكرَّموا على دورهم الجليل، تم حرمانهم من أبسط حقوقهم مثل الترقيات والمساعدات. بينما تُنفق الأموال بسخاء على أمراء الحرب وزعماء المليشيات، يُترك المعلم في العراء، يُهان في رزقه، ويُجبر على التسول أو البحث عن أعمال هامشية تدر عليه دخلًا زهيدًا.
صور أساتذة الجامعات وهم يبيعون الأقلام والطعام في الأسواق ليست مجرد مشاهد عابرة، بل هي انعكاس مأساوي لحال النخبة التعليمية في السودان. البروفيسور الذي أفنى عمره في تدريس الهندسة بجامعة الخرطوم، إحدى أعرق الجامعات السودانية، أصبح بائعًا متجولًا في الشوارع، يكافح من أجل لقمة العيش، بينما يُحتفى بأمراء الحرب وقادة المليشيات الذين لا يجلبون إلا الخراب والدمار.رحلات السودان
إنّ ما نشهده لا يمكن وصفه إلا بأنه استهداف ممنهج للمعلمين والمفكرين. فلم يقتصر الظلم على التجويع والتهميش، بل أصبح المعلمون والمثقفون أهدافًا للقتل والتصفية الجسدية. ما حدث للأستاذ أحمد الطيب عبيدالله في أم روابة ليس مجرد جريمة عابرة، بل صدمة هزت الضمير الإنساني وفضحت الوجه الحقيقي لمن لا يريدون لهذا الوطن أن ينهض. رجل في السبعينيات من عمره، أفنى حياته في خدمة التعليم، قُتل بوحشية وقُطعت رأسه في مشهد يكشف مدى الانحدار الأخلاقي وانعدام الإنسانية لدى القتلة.
هذه الجريمة ليست استثناءً، بل تأتي ضمن سلسلة من الجرائم التي تستهدف العقول والمفكرين، في محاولة لإخماد كل صوت يدعو للعلم والوعي. وكما كان الحال في العصور المظلمة، حيث كان المستبدون يخشون أصحاب الفكر ويستهدفونهم، يعيش السودان اليوم نفس السيناريو، إذ يُترك الجهلة والطغاة في مواقع السلطة، بينما يُقتل أو يُهجّر أصحاب العقول النيرة.
إن هذه الحرب اللعينة عبثٌ لا نصر فيه. وما يجري في السودان ليس حربًا من أجل العدالة أو الحرية، بل صراع على السلطة والثروة، وليس لصالح الشعب. كل طرف يدّعي أنه يحارب من أجل قضية، بينما الحقيقة أن الجميع يغرق في مستنقع القتل والدمار، غير عابئين بمصير المدنيين الذين يدفعون الثمن الأكبر.
كلما استمرت الحرب، زاد الخراب وانهارت الدولة أكثر فأكثر. لا نصر عسكري يمكن أن يحقق السلام، وإن انتصر أحد الأطراف، فلن يكون النصر إلا على أنقاض وطن محطم، وستجني المليشيات الثمار، بينما يظل المدنيون تحت وطأة الذل والقهر.
إن نداءنا الأخير : أوقفوا الحرب الآن! فليس هناك حل إلا بوقفها فورًا، فكل يوم يمر يعني مزيدًا من القتل والتشريد والانهيار. لا خلاص للسودان إلا بالحوار والتوافق، وإبعاد السلاح عن السياسة. يجب أن يُعاد للمعلم مكانته، وأن يُرفع الظلم عن أصحاب الفكر، وأن تتوقف آلة القتل التي لا تفرق بين الأبرياء والمجرمين.
رحم الله الأستاذ أحمد الطيب عبيدالله وكل ضحايا هذه الحرب اللعينة، وأسكنهم فسيح جناته. والخزي والعار لكل من يقتل الأبرياء باسم السلطة، ولكل من يبرر استمرار هذه المأساة. لابد من تضافر الجهود لإيجاد حلول عملية توقف أنهار الدم، سواء بوقف القصف العشوائي الذي يحصد أرواح المدنيين أو بدعم المبادرات التي تعيد للمعلمين حقوقهم وتحميهم من الفقر والقتل والتهميش.
اللهم فرّج عن المعلمين وعن كل الشعب السوداني المظلوم.
hasnabdu@gmail.com