أمير تاج السر
منذ أيام رحل نغوغي واثيونغو، الكاتب الكيني المخضرم، والمعروف منذ ستينيات القرن الماضي، حيث كتب الرواية والقصة القصيرة والمسرحية، وأيضا كتب في أدب الطفل. وكانت كتابته في مجملها تلخيصا لمعاناة أفريقيا وإنسان أفريقيا، ومنازلة للمستعمر الذي غير أعرافا وتقاليد كثيرة، بغزوه تلك البلاد الطيبة، الغنية بالثروات، لكنها في عرف الغزاة دائما بدائية، وبحاجة لتدخل، حتى تساق إلى الحضارة، ويستفاد من ثرواتها.
نغوغي واثيونغو، حتى إسمه يبدو محليا، ليس إسما متداولا، أو لعله متداول في حدود محليته، أو قبيلته، ولا نعرف ذلك، المهم أن الرجل بذلك الاسم المميز، شق له طريقا صلبا في الكتابة الإبداعية، وأصبح من أعلام الكتابة في أفريقيا، تماما مثل تشينوا أشيبي، وولي سوينكا، وبن أوكري، وأما عطا، وتشماندا، وغيرهم من الذين أثروا الإبداع، وأثروا في الآداب حتى بلغات أخرى ترجموا إليها.
لكن المشكلة دائما عندنا كقراء بالعربية، أن آثارا قليلة تصل إلينا من الإبداع المكتوب بلغات أخرى، لذلك لن تجد كتبا كثيرة لهؤلاء مترجمة. ولعل ما يتبادر إلى الذهن، حين يذكر نغوغي، روايته الجميلة «بتلات الدم»، التي ترجمها الشاعر الراحل سعدي يوسف، وكانت ترجمة ممتعة، كونها من شاعر متمكن مثل سعدي. وتتناول الرواية في فكرتها الاستغلال الكبير للفلاحين والبسطاء بواسطة الأرستقراطيين، بعد الاستقلال في شرق أفريقيا، وهي فكرة مسيطرة على الأدب في كل مكان، أن تبرز البسطاء، وتبرز كيفية استغلالهم، ولعلنا عالجناها كلنا في أعمال لنا. لكن تظل الفكرة مطروحة حتى الآن خاصة أن الاستغلال تطور وتشعبت دروبه، وأصبحت دول كثيرة ترزح في الفقر بسبب النفوذ السياسي والاقتصادي لدول أخرى. كذلك الحروب التي توقد لوأد أي تطلعات للشعوب، ولدفن حضارات كثيرة، وتخليد ذكرى المرض والفقر، والتشرد والنزوح هنا وهناك.
وبالطبع لأن نغوغي كاتب من أفريقيا، سنجد هذه الفكرة وغيرها من الأفكار الرافضة للانهزام، مطروحة دائما في قصصه ومسرحياته.
أيضا حين يذكر نغوغي، نتذكر أنه من المرشحين لجائزة نوبل منذ زمن طويل، وتلك جائزة غريبة جدا، أو لعلها محكومة بقواعد معينة لا يعرفها الناس. هناك جائزة سنوية تمنح، وهناك قائمة طويلة من الأسماء المطروحة، وهناك فائز واحد في كل عام، قد يكون من ضمن تلك القائمة، وقضى فيها زمنا طويلا، وقد لا يكون مرّ بتلك القائمة، غير عام أو عامين، ريثما يحصل على جائزته الكبرى.
وفي كل عام، نجلس لنتوقع الفائز، وغالبا نقرأ القائمة ونعيد قراءتها، ونقول، نغوغي، أو موراكامي، أو ميلان كونديرا، أو أي واحد من الذين يعرفهم الناس كلهم، لكن دائما يأتي إسم لا يعرفه إلا قليلون. وحين فاز عبد الرزاق قرنح، منذ ثلاثة أعوام، لم يكن يعرفه أحد في العربية تقريبا، والذين سمعوا به أو قرأوا له، كانوا يجيدون الإنكليزية، ثم ترجمته دار أثر السعودية بعد ذلك، وبات مقروءا لنا.
نغوغي من المعروفين، ومن سكان قائمة نوبل منذ زمن طويل، ولم يحصل عليها، لكن بالمقابل، حصل على حب قرائه في كل مكان وصلت إليه إصداراته، بينما كثيرون حصلوا على نوبل، لم ينتشروا كثيرا. وحين أراجع ذاكرتي، بحثا عن الفائزين بنوبل، في السنوات الأخيرة، لا أعثر إلا على عدد بسيط، أبرزهم الألمانية الشرقية هيرتا مولر، التي تكتب بطريقة آسرة وفذة.
وهذا يعيدنا إلى لغط الجوائز، الذي نتداوله دائما، فالجائزة ليست معيارا للجودة، وليست طريقا سلسا دائما للجماهيرية العريضة، وعدم وجود الجائزة، ليس دائما مقبرة للكاتب، أو عائقا أمام جماهيرية. ربما يكتسبها، وقد رحل كونديرا بلا نوبل ولم يمت كمبدع، وموراكامي ما زال يكتب ملاحمه الكبيرة بحيوية ونشاط، ويتزاحم الناس حد الاقتتال، أمام المكتبات التي توزع له عملا جديدا، وأيضا نغوغي مات، ولن ينسى أحد «بتلات الدم».
نغوغي أيضا كان أكاديميا وأستاذا جامعيا، وقد هاجر إلى أمريكا منذ فترة طويلة وعمل في مجال التدريس في عدد من الجامعات، وعمل مشرفا على الترجمة أيضا. واللافت في أعماله إنه كتب معظمها بلغته المحلية، إمعانا في تأكيد الهوية المحلية، وبالطبع هذا اتجاه جيد، لكن تظل محدودية الفهم موجودة لدى قطاع كبير، لا يفهم تلك المحلية، قبل أن تأتي الترجمة وتنقلها للغة معروفة.
وكنت قديما أستغرب من نقل اللهجة المحلية إلى اللغة المترجم إليها عمل ما، مثل «عرس الزين» للطيب صالح، حيث كتب الحوار بلهجة شمال السودان الممعنة في المحلية، وغير المعروفة حتى لأبناء أواسط السودان. لكن اكتشفت أن المترجمين يدرسون كل شيء، ويستعينون بكل من يستطيع مد يد العون، من أجل إنجاز ترجمة جيدة.
مؤكد سيبقى نغوغي واثيونغو خالدا، وسيبقى الأدب الأفريقي الذي أرسى أبناء جيله، والجيل الذي سبقه، لبناته الأولى، جذابا دائما ومنتشرا.
*كاتب من السودان