عمر سيد أحمد
مقدمة
يُعد بنك السودان المركزي المؤسسة المالية العليا في البلاد، والمسؤول عن وضع السياسات النقدية وإدارة القطاع المصرفي بهدف تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي. منذ تأسيسه في عام 1960، مرّ البنك بتحولات كبرى، أبرزها أسلمة النظام المصرفي في 1984، والتي فرضت تغييرات جذرية على أدوات السياسة النقدية. ورغم محاولات البنك تطوير سياساته وفقًا للنظام الإسلامي، إلا أنه واجه تحديات كبيرة أثّرت على قدرته في ضبط التضخم، استقرار العملة، وإدارة الاقتصاد.
إلى جانب التحديات الاقتصادية والفنية، برزت مشكلة جوهرية تتمثل في فقدان البنك المركزي لاستقلاليته، حيث تحول إلى أداة لخدمة الحزب الحاكم وقادته بدلاً من كونه مؤسسة مستقلة تعمل لصالح الاستقرار الاقتصادي الوطني. هذا الوضع جعل البنك غير قادر على اتخاذ قرارات نقدية محايدة، وساهم في تفاقم الأزمات المالية في البلاد.
أولًا: تأسيس بنك السودان المركزي والتطور التشريعي
1. التأسيس والتطور القانوني
تأسس بنك السودان المركزي بموجب قانون بنك السودان لعام 1959، وبدأ عملياته رسميًا في 22 فبراير 1960، ليتولى مسؤولية إصدار العملة الوطنية، إدارة السياسة النقدية، والرقابة على القطاع المصرفي.
2. التحول إلى الصيرفة الإسلامية
في عام 1984، ومع تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، تم تحويل النظام المصرفي إلى الصيرفة الإسلامية، مما أدى إلى تعديل شامل للممارسات المالية لتتوافق مع أحكام الشريعة. لم يكن هناك نموذج عالمي لبنك مركزي إسلامي يمكن الاقتداء به، ما جعل التجربة السودانية فريدة ولكن محفوفة بالمخاطر. وفي عام 1993، تم إنشاء الهيئة العليا للرقابة الشرعية لضمان امتثال العمليات المصرفية للمبادئ الإسلامية.
3. التعديلات القانونية والإصلاحات الاقتصادية
في عام 2002، صدر قانون جديد لبنك السودان المركزي، وخضع لتعديلات إضافية في الأعوام 2005، 2006، و2012 بهدف تعزيز الرقابة المصرفية وتطوير السياسات النقدية. ورغم هذه التعديلات، ظل البنك مقيّدًا بغياب أدوات نقدية تقليدية، مما أثر على قدرته في تحقيق استقرار اقتصادي فعّال.
ثانيًا: فقدان استقلالية البنك المركزي وتأثيره على الاقتصاد
1. مفهوم استقلالية البنك المركزي وفقًا لتحليل ميلتون فريدمان
يُعد الاقتصادي الشهير ميلتون فريدمان من أبرز المدافعين عن استقلالية البنوك المركزية، حيث يرى أن البنوك المركزية التي تخضع للسلطات السياسية تفقد قدرتها على التحكم في التضخم والاستقرار النقدي.
ويؤكد فريدمان أن السبب الرئيسي لعدم استقرار الاقتصاد في العديد من الدول هو التدخل الحكومي في السياسة النقدية، حيث تلجأ الحكومات إلى طباعة النقود لتمويل العجز، مما يؤدي إلى ارتفاع المعروض النقدي وحدوث تضخم جامح. ويرى أن البنوك المركزية يجب أن تكون كيانات مستقلة تمامًا عن الحكومات، حتى لا تُستخدم كأدوات سياسية قصيرة المدى
وفقًا لتحليل فريدمان، يمكن قياس استقلالية البنك المركزي من خلال عدة مؤشرات، أهمها:
• مدة ولاية محافظ البنك المركزي ومدى استقلاله عن الحكومة.
• قدرة البنك المركزي على اتخاذ قرارات نقدية دون ضغوط سياسية.
• عدم استخدام أدوات السياسة النقدية لتمويل العجز الحكومي.
2. فقدان استقلالية البنك المركزي في السودان
• توجيه السياسة النقدية لخدمة الحكومة بدلاً من تحقيق استقرار الاقتصاد.
• تمويل العجز الحكومي عبر طباعة النقود، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم.
• انعدام الثقة في النظام المصرفي بسبب التدخلات السياسية، مما أدى إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية.
إذا طبقنا رؤية فريدمان على الحالة السودانية، نجد أن فقدان استقلالية البنك المركزي كان سببًا رئيسيًا في تفاقم الأزمات الاقتصادية، حيث أصبح البنك أداة في يد الحكومة لطباعة النقود، مما تسبب في انهيار قيمة العملة الوطنية وارتفاع التضخم إلى مستويات غير مسبوقة.
ثالثًا: أسلمة النظام المصرفي: نجاح أم أزمة؟
رغم التحول الكامل نحو النظام المصرفي الإسلامي، إلا أن التجربة السودانية واجهت صعوبات جمة، من بينها:
1. غياب أدوات نقدية فاعلة
• أدى إلغاء أسعار الفائدة إلى فقدان أحد أهم الأدوات التقليدية للتحكم في التضخم وإدارة السيولة.
• لم تتمكن البدائل الإسلامية، مثل صكوك المرابحة والمضاربة، من تحقيق ذات الفعالية في إدارة المعروض النقدي.
2. صعوبة ضبط التضخم وسعر الصرف
• غياب أدوات سعر الفائدة جعل من الصعب ضبط المعروض النقدي، مما أدى إلى ارتفاع التضخم.
• لم تكن هناك بدائل فعالة للتحكم في سوق العملات، مما ساهم في تدهور قيمة الجنيه السوداني وانتشار السوق الموازي للعملة.
3. تراجع التمويل وتقييد الابتكار المصرفي
• أدت القيود المفروضة على المنتجات المالية الإسلامية إلى ضعف المرونة في توفير التمويلات المختلفة، مما أثّر على الاستثمار والنمو الاقتصادي.
• لم يتمكن النظام المصرفي الإسلامي من توفير منتجات تمويل مرنة تلبي احتياجات جميع القطاعات الاقتصادية، مما أدى إلى ضعف التنافسية المصرفية.
رابعًا: التوصيات والإصلاحات المطلوبة
في ظل الأزمات المتتالية، أصبح من الضروري إجراء إصلاحات جذرية لضمان استقرار النظام المصرفي، وتعزيز استقلالية البنك المركزي، بما يتماشى مع رؤية ميلتون فريدمان حول ضرورة تحييد السياسة النقدية عن التدخل الحكومي المباشر.
التوصيات:
1. إعادة استقلالية البنك المركزي وفصله تمامًا عن التأثيرات السياسية، وفقًا للمعايير الدولية.
2. إصلاح النظام المصرفي، وتبني نموذج مرن يجمع بين الصيرفة الإسلامية والتقليدية، كما هو الحال في ماليزيا والسعودية.
3. إدخال أدوات نقدية حديثة لضبط التضخم واستقرار العملة، مع إعادة تقييم دور الصكوك الإسلامية.
4. تعزيز آليات الرقابة المصرفية، وفرض مزيد من الشفافية والمساءلة على القطاع المالي.
5. التعاون مع المؤسسات المالية الدولية لاستعادة الثقة في النظام المصرفي، وجذب الاستثمارات الأجنبية.
ختامًا
وفقًا لنظرية فريدمان، فإن نجاح أي اقتصاد يعتمد على استقلالية السياسة النقدية، وإذا لم يتحقق ذلك، فإن البنك المركزي سيظل عرضة للضغوط السياسية، مما يؤدي إلى تضخم غير مسيطر عليه، تدهور العملة، وتراجع الثقة في النظام المالي.
إن استعادة استقلالية البنك المركزي ليست خيارًا، بل ضرورة اقتصادية لضمان مستقبل مالي مستدام، وإعادة بناء الثقة في الاقتصاد السوداني.
مارس 2025