spot_img

ذات صلة

جمع

سياق التهليل والتكبير في إلانتهاكات المحفزة بالكراهية والعنصرية

بقلم : محمد بدوي شاهد العالم عبر وسائل الإعلام البديلة...

التحام!!

أطيافصباح محمد الحسن طيف أولأن تعرف الحياة قبل هذاوتدرك أنه...

انتصاراتهم الظرفية وانتصارنا الاستراتيجي

رشا عوضالجيش والد.عم السريع و مليشيات الحركة الاسلامية اسما...

أمريكا الأخرى: كلمة التحرير

د.عبد الله علي إبراهيم(من الأرشيف)لا أعرف اقتراحاً وعى محنة...

الدرديري : فضائل الإنقاذ وطريق العودة للسلطة..!

مرتضى الغالي كلمّا تحدث أحد من الكيزان عن جماعته أو...

الحركات المطلبية السودانية: كسر قيود المركزية وصناعة المستقبل


د. عبد المنعم همت

تمتاز التركيبة الاجتماعية السودانية بخصائص متفردة تجعلها أكثر قابلية للارتباط بالحركات المطلبية بدلاً من الانغماس في العمل الحزبي أو الأيديولوجي. هذا الميل الطبيعي نحو العمل المطلبي ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل يعكس طابعًا بنيويًا متجذرًا في النسيج الاجتماعي السوداني، الذي يقوم على أساس التفاعل العملي بين مختلف الفئات، بعيدًا عن التعقيدات النظرية أو المصالح الضيقة التي قد يفرضها الانتماء الحزبي. إن النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني تشكل العمود الفقري لهذه البنية، إذ إنها ليست مجرد كيانات تنظيمية تُدار وفق لوائح بيروقراطية، بل هي انعكاس حقيقي لوعي جمعي يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية، ويضع المصلحة العامة في المقدمة.رحلات السودان
هذا الفضاء الديناميكي الذي يتيحه العمل المطلبي يوفر للأفراد فرصة للتعبير عن تطلعاتهم واحتياجاتهم في سياق عملي وواقعي. بينما يفرض العمل الحزبي قيودًا صارمة من خلال مركزية القرار والانغلاق داخل هياكل تنظيمية تخدم مصالح النخب الحزبية، يبرز العمل المطلبي كآلية جماعية مرنة، قادرة على التكيف مع المتغيرات. إنه مجال مفتوح للجميع، حيث يصبح كل فرد مشاركًا في صياغة الحلول وإيجاد الطرق التي تلبي احتياجاته، ما يُحدث نقلة نوعية في العلاقة بين الفرد والمجتمع.
◄ مستقبل السودان يعتمد على قدرته على تجاوز ثنائية الثورة والانقلاب، والانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد على الفعل الجماعي الواعي الذي ينبع من الحركات المطلبية
ومع ذلك، فإن الأنظمة الشمولية التي تعاقبت على السودان أدركت خطورة هذه البنية المستقلة. فقد رأت في النقابات والاتحادات ومنظمات المجتمع المدني تهديدًا مباشرًا لهيمنتها السياسية، فسعت إلى تفكيكها وإضعافها بشكل منهجي. هذه المحاولات لم تكن مجرد إجراءات قانونية أو إدارية، بل حملت في طياتها رؤية إستراتيجية تهدف إلى كسر روح المقاومة لدى الشعب السوداني. لقد كانت تلك الأنظمة تدرك أن العمل المطلبي يملك قدرة على استنهاض وعي المجتمع، لأنه ينبع من حاجات فعلية تعكس مصالح الناس الواقعية.رحلات السودان
في هذا السياق تصبح المقارنة بين العمل المطلبي والحزبي أكثر وضوحًا. ففي حين أن العمل الحزبي يستهلك الطاقات في صراعات داخلية وتنظيمية، يفتح العمل المطلبي آفاقًا واسعة للتعاون والإبداع. إنه عملية تشاركية تخلق ديناميكية مستدامة، تتيح للمجتمع فرصة للتكيف مع الظروف المتغيرة. هذا النوع من العمل يرفض المركزية كقيد على الفعل الجماعي، ما يجعله أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التحديات. من هنا تبرز التجربة السودانية كدليل حي على قدرة الحركات المطلبية على إعادة تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي، ليس كبديل للعمل الحزبي فحسب، بل كنموذج جديد يتجاوز مفهوم المركزية.
إن الحركات المطلبية في السودان ليست مجرد رد فعل على الأزمات السياسية أو الاقتصادية، بل هي نتاج لتراكم طويل من الخبرات المجتمعية التي تمتد جذورها في التاريخ السوداني. لقد شكلت هذه الحركات أدوات فعالة في مواجهة الاستبداد وفتح مسارات جديدة للتغيير. وإذا أُحسن فهم هذه الحركات وتطويرها، فإنها قد تصبح أداة محورية في كسر الثنائية القاتلة التي حبست المجتمع السوداني في حلقة مفرغة من الثورات والانقلابات. هذه الثنائية، التي هيمنت على المشهد السوداني لعقود، لم تكن سوى نتيجة للصراع المستمر بين النخب الحاكمة والقوى المعارضة، دون أن تتيح للمجتمع فرصة حقيقية للتعبير عن احتياجاته.رحلات السودان
ما يحتاجه السودان اليوم ليس ثورة جديدة تقلب نظام الحكم، ولا انقلابًا يعيد إنتاج الأزمة في شكل آخر، بل ما يحتاجه هو انبثاق حركات مطلبية واعية قادرة على صياغة رؤية جديدة للتغيير. هذه الرؤية يجب أن تتجاوز الاستقطاب الأيديولوجي والسياسي، وتؤسس لمرحلة تعتمد على الفعل الجماعي المبني على الاحتياجات الفعلية للمجتمع. في هذا السياق يصبح العمل المطلبي أكثر من مجرد وسيلة لتحقيق أهداف آنية؛ إنه عملية تحول جوهري في طبيعة العلاقة بين السلطة والمجتمع، بين الفرد والجماعة، وبين الأيديولوجيا والواقع.
◄ الأنظمة في السودان كانت تدرك أن العمل المطلبي يملك قدرة على استنهاض وعي المجتمع، لأنه ينبع من حاجات فعلية تعكس مصالح الناس الواقعية
إن أهمية الحركات المطلبية تكمن في قدرتها على إعادة تعريف مفهوم التغيير. فبدلاً من أن يُنظر إلى التغيير كعملية انتقال من نظام سياسي إلى آخر، يصبح التغيير تحولًا جوهريًا في طبيعة العلاقة بين الأفراد والمؤسسات. هذه العلاقة، التي طالما كانت محكومة بالمركزية والهيمنة، يمكن إعادة صياغتها لتكون أكثر ديمقراطية ومرونة. في هذا الإطار يصبح المجتمع نفسه فاعلًا رئيسيًا في عملية التغيير، وليس مجرد متلقٍ للقرارات التي تُفرض من النخب السياسية.
ولكن لتحقيق ذلك لا بد من مواجهة التحديات التي تعترض طريق الحركات المطلبية. فمن جهة هناك الأنظمة السياسية التي تسعى دائمًا إلى تقويض هذه الحركات وإضعافها. ومن جهة أخرى هناك تحديات داخلية تتعلق بقدرة هذه الحركات على التنظيم والتنسيق والعمل الجماعي. إن تجاوز هذه التحديات يتطلب رؤية واضحة وإرادة قوية، إلى جانب فهم عميق للطبيعة الديناميكية للمجتمع السوداني.
في هذا السياق يمكن للحركات المطلبية أن تلعب دورًا محوريًا في بناء سودان جديد؛ سودان يتجاوز إرث المركزية والاستبداد، ويؤسس لنظام يقوم على الشراكة الحقيقية بين الدولة والمجتمع. هذا النظام لن يكون مجرد إطار قانوني أو سياسي، بل سيكون تجسيدًا لرؤية مجتمعية تعكس تطلعات الشعب السوداني في الحرية والعدالة والكرامة.
إن مستقبل السودان يعتمد على قدرته على تجاوز ثنائية الثورة والانقلاب، والانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد على الفعل الجماعي الواعي. هذا الفعل، الذي ينبع من الحركات المطلبية، يمكن أن يعيد تشكيل المشهد السوداني بشكل جذري، ليصبح نموذجًا يحتذى به في العالمين العربي والأفريقي؛ النموذج الذي يعيد للإنسان السوداني موقعه كمحور للتغيير لا كأداة في يد النخب، النموذج الذي يضع احتياجات المجتمع في المقدمة، ويتجاوز الشعارات الأيديولوجية الفارغة، النموذج الذي يفتح أفقًا جديدًا للتغيير، لا يعتمد على الهياكل القديمة بل يخلق هياكل جديدة تتماشى مع تطلعات الشعب السوداني.

spot_imgspot_img