spot_img

ذات صلة

جمع

الذكرى السادسة لمجزرة فض الاعتصام

 أحمد الملك مرّت بالأمس الذكرى السادسة لمجزرة فض الاعتصام، كانت...

السودان: تصاعد وتيرة الاحتجاجات في وادي حلفا وإغلاق الطريق القومي

وادي حلفا: التحول تصاعدت وتيرة الاحتجاجات في مدينة وادي حلفا...

“هيومان رايتس ووتش” تتهم الجيش السوداني بشن غارات جوية في جنوب دارفور استهدفت مدنيين

التحول: متابعات الغارات العشوائية في فبراير/شباط تُضاف إلى سجل...

اميركا.. دعوات لتصنيف جماعة الإخوان “إرهابية”

التحول: وكالات بعد الهجوم الذي وقع الأحد الماضي في مدينة...

بيان دولي يدعو إلى السلام وتعزيز دور المرأة لتحقيقه واستدامته

الخرطوم: التحول دعت كل من الإمارات العربية المتحدة، والسعودية، ومصر،...

الطبقة السلطوية: من الاستقلال الي اختطاف الدولة

د. احمد التيجاني سيد احمد
دولة ٥٦، سردية التهميش واختطاف الدولة

مقدمة: ما غاب عن خطاب المركز والهامش
لطالما طُرحت أزمة السودان بوصفها خلافًا إثنيًا أو صراعًا جهويًا بين “مركز” و”هامش”، لكن ما غاب – أو غُيّب – عن كثير من التحليلات هو وجود “”طبقة سلطوية”” متماسكة تربعت على عرش السودان منذ لحظة الاستقلال، وتمكنت من إعادة إنتاج نفسها لعقود، مهما تبدلت الحكومات أو تغيّرت الشعارات.
جذور “”الطبقة السلطوية”” وتكوينها الأول
هذه الطبقة السلطوية ليست من لون واحد، ولا من جهة بعينها، لكنها ظلت تتحكم في مفاصل الدولة من خلال أدوات التعليم، والجيش، والإدارة، ثم لاحقًا المال السياسي والديني. تشكلت أولى نواتها من أبناء الشمال – خاصة الجعليين، الشايقية، والدناقلة – ممن حصلوا على فرص التعليم في ظل الإدارة الاستعمارية، ثم ورثوا جهاز الدولة بعد الاستقلال، في غياب مشروع وطني يعيد بناء الدولة على أسس العدالة الاجتماعية والتوزيع المتوازن للسلطة والثروة.

التمكين والانتشار الأفقي للسلطة
في عهد حكم الحركة الإسلامية، تمّت فكفكةً الدولة بالكامل عبر سياسة “التمكين” التي طردت الكفاءات الوطنية، وزرعت الولاء الأيديولوجي. تمددت الطبقة السلطوية لتضم الإسلاميين ومناصريهم من كل جهات السودان، تحت مظلة واحدة: الولاء للحزب، لا للوطن.
السلطة في مواجهة المواطن
في الخرطوم والمدن الكبرى، أصبحت هذه الطبقة تتحكم في كل مفاصل الدولة، من القضاء إلى الجامعات إلى الإعلام. *أما الأطراف، فظلت تُدار كمناطق مراقبة أو مُعاقبة. لقد زرت قرى في الشمال لا تصلها الطرق، ولا تجد فيها مستوصفًا. قرى هاجر نصف سكانها، وأُحرقت حدائق تمورها. *الفقر والتهميش هناك ليسا عرضًا، بل سياسة ممنهجة.
الدولة المركزية ومقاومة الفيدرالية
منذ نشأة الدولة الحديثة، كانت الطبقة السلطوية العقبة الكبرى أمام أي مشروع لبناء دولة قادرة على استغلال التعدد والنهوض بالأقاليم. تمترست خلف مفهوم المركزية القاهرة، لأنها كانت تدرك أن الفيدرالية أو اللامركزية تهدد امتيازها التاريخي في التحكم بالموارد والسياسات من الخرطوم.
و علي سبيل المقارنة نجد جمهورية كينيا التي تماثل السودان في التعددية المناخية و الاجتماعية ، قد قدمت نموذجًا يستحق التأمل: فمنذ إقرار دستور 2010، تبنّت نظامًا لامركزيًا فعّالًا أدى إلى توزيع نسبي عادل للثروة، وإدارة محلية حقيقية، ومساءلة مجتمعية، مما جنّب البلاد النزاعات الداخلية.
الفيدرالية أم اللامركزية؟ التأسيس يوضح.
في دستور “تأسيس”، وردت الإشارة إلى اللامركزية السياسية والإدارية والمالية، مع التمييز بين الفيدرالية كاستقلال مناطقي، واللامركزية كنهج إداري داخل دولة موحدة.
لا يدعو التأسيس إلى التفتيت، بل إلى عدالة تمثيل ومساءلة حقيقية على المستوى المحلي. اللامركزية هنا ليست مجرد آلية إدارية، بل رؤية للعدالة والمواطنة. وهي نقيض لما حدث في عهد الحركة الإسلامية، حين تم تجزئة الحكم وتحويله إلى وسيلة سيطرة، دون تمويل حقيقي أو تفويض فعلي.

الفيدرالية والمركزية: ومتى يلتقيان؟
في السياق السوداني، لا تبدو الفيدرالية والمركزية كنموذجين إداريين مختلفين فقط، بل كتصورين متناقضين للدولة نفسها:

فالمركزية كانت أداة الهيمنة منذ الاستقلال، تُدار من الخرطوم، وتُفرَض من فوق، وتُمارَس باسم “الوحدة الوطنية”، لكنها في واقع الأمر أقصت الأقاليم وهمّشت الشعوب، واحتكرت القرار والثروة والتمثيل.

بينما الفيدرالية طُرحت كبديل عادل، يعترف بالتعدد، ويوزّع السلطات، ويمنح الإقليم حق المشاركة الفعلية في القرار، دون أن يعني ذلك الانفصال أو التفتت.

لكن السؤال الجوهري ليس في المفاضلة بينهما فقط، بل في: هل يمكن أن تلتقي الفيدرالية والمركزية؟

الإجابة: نعم، ولكن بشرط. أن يُعاد تعريف المركزية بوصفها “مركز تنسيقي سيادي، لا مركز وصاية أو احتكار، وأن تُبنى الفيدرالية على أسس ديمقراطية تضمن وحدة الدولة، لا من خلال القسر، بل من خلال الاعتراف والتوزيع العادل للسلطة والثروة.

*الفيدرالية والمركزية تلتقيان حين يكون المركز خادمًا للأقاليم، لا سيدًا عليها، وحين يكون القرار مشتركًا، لا مفروضًا. تلتقيان في دولة ديمقراطية تعددية، تُصاغ فيها العلاقة بين المركز والهامش بوثيقة دستورية تُحترم، لا بإرادة انتقائية تُخترق. **وإلى أن يحدث ذلك، ستظل المركزية السودانية مرادفًا للقهر، وستظل الفيدرالية حلمًا مؤجلًا لمجتمعات تنتظر الإنصاف

الدم والهوية: الوجه العنيف للسلطوية
منذ تمرد الجنوب عام 1955، اختارت الدولة الرد بالسلاح لا بالسياسة. أُحرقت القرى، وقصفت المدنيون، واستُخدمت الهوية كسلاح. الإعلام والدين شكّلا خطابًا استعلائيًا يُبرر القمع والتقسيم. لم يكن القتل خطأً، بل سياسة لضبط المجتمع بالقوة.
الطريق إلى التحرير: تفكيك السلطوية لا تسوية معها
الخطر الحقيقي على مشروع السودان الجديد لا يكمن فقط في فلول الموتمر الديمقراطي المحلول ، بل في المنظومة الذهنية والسياسية التي جعلت القتل منهجًا، والتمييز قانونًا، والاستعلاء سياسة. تفكيك هذه السلطوية لا يتم بالمصالحة معها، بل بمحاسبتها، وكشف جرائمها، وفتح الأرشيف، وإعادة كتابة سردية الدولة. نحن لا نكتب فقط لتشخيص الماضي، بل لنُنير المستقبل. فلتكن كلماتنا سياجًا ضد النسيان، ومطرقةً على جدار الهيمنة.
خاتمة: من إسقاط الهيمنة إلى بناء الدولة
نهضة السودان تبدأ بإسقاط الطبقة السلطوية التي وُلدت مع استقلال 1956، وبناء دولة الشعب على أسس المواطنة والعدالة واللامركزية. فلتسقط نخبة الامتياز، ولتنهض دولة الكرامة.

هوامش:من التهميش إلى التهشيم الممنهج

١. النوبيون :الغائبون الحاضرون
أبناء الشمال الأقصى – النوبيون – تعرضوا للتهجير القسري وفقدوا أراضيهم، و ابعدوا عن ثرواتهم الطبيعية من معادن وًذهب و كميات هايلة من مياه الحوض النوبي ،و فقدوا تاريخهم و آثارهم ، وانقطعوا عن البنية الاقتصادية المركزية. فاضطروا إلى الهجرة نحو مصر، ثم إلى دول الخليج، حيث عملوا في مهن أغلبها هامشية. لكنهم حافظوا على تقليد العودة السنوية خلال أكتوبر، محمّلين بما تيسّر من النقود وبعض الأغراض. كانت تلك العودة أشبه بـ”موسم الكرامة”: النوبي الذي أمضى عامه في الغربة، لا يعود لنفسه فقط، بل يعود لمجتمعه ليستثمر ما جمعه – مهما قل – في توفير البذور، أو بناء مدرسة صغيرة، أو مركز صحي، أو تزويج أحد الأبناء،او البنات ؛ أو حتى لترميم بيت قديم أو شق ساقية جديدة. هكذا ظل هؤلاء الغائبون الحاضرون يمثلون ضمير الوطن في أقصى شماله، لا يطلبون شيئًا من الدولة، بل يمنحون ما استطاعوا.

لم تُعالج الدولة آثار التهجير، ولم تُمنح المجتمعات النوبية تعويضات عادلة، بل جُرِّدوا من أبسط حقوقهم في العودة، وفي التعبير عن لغتهم، وفي حماية إرثهم المادي والرمزي. وبدلًا من احتضان النوبيين كجذر وطني أصيل، تم تصويرهم – ضمن سردية الدولة المركزية – كعنصر غريب أو تهديد صامت للهوية المركزية المهيمنة.

ففي التعليم والإعلام والمناهج، غُيّب التاريخ النوبي لصالح سردية وحيدة و لغة وحيدة ، اختُزل فيها السودان في النيل الأوسط، وأُقصيت حضارات مثل كوش ونبتة ومروي من الذاكرة الجماعية الرسمية.

إن النوبيين، في صمتهم ومساهماتهم الصامتة، ظلوا أكثر وطنية من دولة تجاهلتهم، وأكثر وفاءً لوطن لم يُنصفهم. وما تزال معركتهم قائمة: معركة ضد النسيان، وضد التهميش، وضد التهشيم الذي يسعى لطمس هوية أمة متجذرة في وجدان النيل

٢-شرق السودان: المعاناة الصامتة تحت هيمنة دولة 56
يشكل شرق السودان أحد أبرز الأمثلة على التهميش البنيوي الذي مارسته الدولة المركزية منذ الاستقلال. فبينما يتمتع الإقليم بثروات طبيعية وموقع استراتيجي، ظلّ خارج حسابات التنمية، يُستغل اقتصاديًا ويُقصى سياسيًا وثقافيًا.

رغم ما تدره الموانئ من دخل للدولة، لم تنعكس هذه العائدات على المجتمعات المحلية. وقد تم تهميش أبناء البجا وغيرهم من المكونات في التمثيل السياسي، كما أُهملت اللغات والثقافات المحلية.

وعلى الرغم من توقيع اتفاقية أسمرا في 2006، لم تُنفذ وعودها، وظلت الاحتجاجات المتكررة في بورتسودان وكسلا تُقابل بالقمع أو التجاهل. بل تم توظيف الصراعات القبلية لتفتيت وحدة الإقليم وإضعاف مطالبه.

إن معاناة شرق السودان ليست هامشية، بل مركزية في فهم أزمة الحكم في السودان. ولا يمكن بناء دولة عادلة دون الاعتراف بهذه المظالم ورد الحقوق إلى أصحابها، ضمن مشروع وطني يضمن التمثيل والمساواة والسيادة الشعبية.
٣-غرب السودان والنيل الأزرق: التهميش والمقاومة في وجه السلطوية
منذ الاستقلال، ظلّت مناطق غرب السودان والنيل الأزرق في قلب معادلة التهميش والقمع التي مارستها الطبقة السلطوية. فبالرغ من ثراء هذه المناطق بالموارد الطبيعية، من ذهب ويورانيوم وأراضٍ زراعية خصبة و مواشي ومراعي شاسعة ، ظلت تعاني الفقر والبنية التحتية المنهارة.

لم تُوفَّر الخدمات الأساسية لسكان دارفور والنيل الأزرق، وواجهت المطالب العادلة بالمشاركة والتنمية بردّ عسكري دموي. فقد كانت دارفور ميدانًا لحرب إبادة وتطهير عرقي، والنيل الأزرق مسرحًا للقصف والتجويع، لا للحوار والتنمية.

السلطة المركزية تبنّت خطابًا يُشيطن هذه المناطق، ووصفت الحركات المسلحة بأنها مشاريع انفصال أو أدوات خارجية، بينما كانت في جوهرها رد فعل على الظلم المزمن.

المعاناة في غرب السودان والنيل الأزرق ليست طارئة، بل هي نتاج نظام سلطوي بني على الامتياز الجغرافي والثقافي. ولا يمكن بناء سودان جديد دون مساءلة هذا التاريخ والاعتراف بحقوق هذه الأقاليم في العدالة والمشاركة الكاملة.

٤-خاتمة الهوامش: من تهميش الأقاليم إلى تفكيك الطبقة السلطوية
إن التهميش الذي طال شرق السودان، وغربه، والنيل الأزرق، والنوبيين، لم يكن عرضيًا أو ناتجًا عن قصور تنموي، بل كان جزءًا من بنية سلطوية تحكمت في الدولة السودانية منذ الاستقلال. هذه الطبقة لم تكتفِ بإقصاء الأقاليم، بل سعت لتهشيم هوية الشعوب وتفكيك مجتمعاتها وربط ولائها بالمركز القاهر.

فشرق السودان حُرم من ثرواته وموانئه، وغرب السودان قُوبل بالحديد والنار بدلًا من التنمية، والنيل الأزرق ظل ساحة حرب منسية، بينما تعرض النوبيون لطمس ثقافي وتهجير قسري طويل المدى.

لا يمكن الحديث عن سودان جديد دون مساءلة هذا التاريخ، ورد الاعتبار لكل من طُمس صوته أو هُمّش وجوده. تفكيك الطبقة السلطوية لا يعني فقط إنهاء سلطة سياسية، بل تفكيك عقل مركزي احتكاري، وإعادة تأسيس الدولة على أسس العدالة والمواطنة والاعتراف المتبادل.

لن تنهض الدولة إلا حين يصبح كل إقليم وكل مواطن شريكًا كاملًا في الثروة، والقرار، والمستقبل.

نواصل

د احمد التيجاني سيد احمد
أبريل ٢٠٢٥ روما نيروبي

spot_imgspot_img