spot_img

ذات صلة

جمع

انعقاد امتحان الشهادة في موعده مع تغيير زمن الجلسات إلي الظهر وسط حرمان آلاف الطلاب

بورتسودان: التحول أعلن وزير التربية والتعليم المكلف د. أحمد خليفة،...

“الدعم السريع” تعلن استعادة السيطرة على منطقة الزرق بشمال دارفور

الفاشر: التحول أعلنت قوات الدعم السريع، عن استعادتها السيطرة على...

البعثة الدولية لتقصي الحقائق تستمتع لشهادات من 200 لاجئ سوداني في كمبالا

كمبالا: التحول أعلنت بعثة الأمم المتحدة المستقلة لتقصي الحقائق حول...

الجيش السوداني يعلن السيطرة على قاعدة “الزُرق” بدارفور

الفاشر: التحول أعلن الجيش السوداني، مساء السبت، سيطرة القوات المشتركة...

نهاية الهيمنة الغربية؟

د. حامد فضل الله
نهاية الهيمنة الغربية؟
في الطريق نحو نظام عالمي جديد
براهما تشيلاني Brahma Chellaney
إلى د. عمرو محمد عباس محجوب ومقاله التنويري الهام” الدولة العميقة الامريكية وحروب الشرق الأوسط”، سودانايل 16 ديسمبر 2024

ترجمة وعرض حامد فضل الله / برلين

تشير التغيرات العميقة التي نشهدها حاليًا في جميع أنحاء العالم إلى بزوغ عصر جديد في العلاقات الدولية. تتراوح التطورات من التقدم المحتمل، الذي قد يكون ثوريًا في التقنيات الجديدة، وخاصة في مجالي التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، إلى التحولات الكبيرة في تدفقات التجارة والاستثمار.
تؤكد الأزمات والصراعات والحروب المستعرة حاليًا، بما لا يدع مجالًا للشك في أننا نعيش في أوقات مليئة بالتوتر. اجتياح روسيا لأوكرانيا، طريقة إسرائيل في خوض الحرب في غزة ولبنان، عمليات القتل التي تنفذها الولايات المتحدة على أراضٍ أجنبية، والتوسع العدواني للصين في بحر الصين الجنوبي والشرقي وحتى في جبال الهيمالايا، جميعها تشير إلى استنتاج واحد: النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة الولايات المتحدة يتراجع لصالح نظام عالمي جديد لا تزال ملامحه في طور التشكل.
ومع ذلك، هناك بعض الاتجاهات العالمية الرئيسية التي أصبحت واضحة بالفعل. فهي تشير إلى أن إعادة ترتيب جذري للنظام الدولي الجاري حاليًا، مما سيكون له تأثيرات واسعة النطاق على كلٍ من الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي.

الاتجاهات العالمية
أعتقد بعض الخبراء الغربيين بعد نهاية الحرب الباردة، بشكل رومانسي أن الاقتصاد العالمي سيصبح من الآن فصاعدًا العامل المحدد للسياسة الجيوسياسية. تلعب في الواقع القوة الاقتصادية اليوم دورًا أكبر في العلاقات الدولية، ولكن الجغرافيا السياسة ( الجيوسياسية) لا تزال تهيمن على الاقتصاد العالمي، بينما تؤثر المخاطر السياسية على الأسواق المالية. وكما يقول المثل القديم: “تتبع التجارة العَلَم” (ويُشار إليه أحيانًا بـ “الراية)” يُرمز إلى شيء مرئي أو واضح يسبق العمل الفعلي. بمعنى مجازي، يمكن أن يعني: من يستخدم “علمه” (أسلوبه، سلوكه أو تحضيره) بحكمة، يتحكم في التجارة” (المترجم).
بعبارة أخرى: تطورت العلاقات التجارية دائمًا في ظل النفوذ السياسي، وكانت التجارة دائمًا مرتبطة بالجغرافيا السياسية. وتعتبر الجغرافيا السياسة حتى اليوم مفتاحًا لفهم التعاون الاقتصادي الدولي – رغم أن القوى العظمى تستخدم أحيانًا المبادرات الاقتصادية أيضاً كوسيلة لتحقيق مصالحها الجيوستراتيجية. مثال كلاسيكي على ذلك هو “طريق الحرير الجديد” للصين؛ حتى سياسات منح القروض غالبًا ما تكون مدفوعة بمصالح جيوسياسية.
وفي ظل الانتقال الحالي نحو نظام دولي جديد، تبرز بعض التطورات أو الاتجاهات. أحد الاتجاهات هو أن العالم يتحرك نحو التعددية القطبية. و بدلاً من هيمنة قوة واحدة. بدأ من عام 1990 تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب. ومع صعود قوى جديدة واستمرار انخفاض حصة الغرب من الناتج الاقتصادي العالمي – وتراجع نسبة السكان الغربيين من سكان العالم – تتغير موازين القوى السياسية أيضاً. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد تظل القوة الرائدة، إلا أنها تجد صعوبة متزايدة في فرض نظامها على بقية العالم. يبدو أن مكانة ونفوذ الولايات المتحدة في الخارج آخذان في التراجع، ويتزايد الشعور بأن أيام مجد أمريكا قد ولّت. ومع تقلص الهيمنة الأمريكية، تدرك الولايات المتحدة تدريجيًا أنها بحاجة إلى حلفائها وشركائها الاستراتيجيين لتعزيز قوتها.
اتجاه آخر: عادت المنافسات بين القوى العظمى لتحتل مركز الصدارة في العلاقات الدولية. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الأزمات والصراعات والحروب الحالية، كما انعكس سلبًا على المؤسسات الدولية.
فقد تم دفع الأمم المتحدة بشكل متزايد إلى هامش السياسة الدولية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الافتقار إلى الإصلاحات الهيكلية وجزئيًا إلى الجمود في مجلس الأمن الدولي. والأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن غير قادرين على التوصل إلى اتفاق بشأن جميع المسائل الدولية الرئيسية تقريبا. أن الجمود هناك يؤدي إلى تعزيز الجمعية العامة للأمم المتحدة الضعيفة هيكليًا إلى حد ما، و لكن من المفارقة، لا يمكنها إصدار توصيات لأنها غير مخولة باتخاذ قرارات ملزمة قانونياً. وباعتبارها من بقايا الحرب العالمية الثانية. لا تعكس الأمم المتحدة بأي شكل من الأشكال علاقات القوة الجديدة وستستمر في فقدان أهميتها إذا لم تكن هناك إصلاحات شاملة. ويشغل الأمين العام للأمم المتحدة منصب أمين سلطات النقض الخمس، لكنه يتصرف مثل الجنرال تجاه الدول الأعضاء الأخرى دون إيلاء الكثير من الاهتمام لتصريحاته.
اتجاه ثالث هو انتشار الحماية. في ظل التوترات العالمية المتزايدة وعدم اليقين الجيوسياسي، تتبنى العديد من الدول سياسات اقتصادية ذات طابع حمائي ووطني. ويتصاعد المد الشعبوي من أوروبا إلى آسيا وأمريكا الشمالية. لم تتوقف العولمة عن التقدم فحسب، بل هناك خطر حدوث تراجع معاكس. هذه الحماية المتزايدة والقومية الاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى تجزئة اقتصادية وإلى تنافس بين الكتل التجارية. مثل هذا الاتجاه لا يعيق النمو الاقتصادي العالمي والتنمية فحسب، بل يهدد أيضًا السلام العالمي. يجب التذكير بأن تحولًا مشابهًا من التجارة متعددة الأطراف إلى التجارة داخل الكتل الجيوسياسية في ثلاثينيات القرن الماضي أدى إلى تفاقم التوترات التي أسفرت في النهاية عن اندلاع الحرب العالمية الثانية.
يتردد في الأفق الجيوسياسي شبح تحالف بين الصين وروسيا. هذا التقارب المتزايد لا يؤثر بشكل مباشر على أمن الغرب فحسب، بل يمكنه أن يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية أيضاً. حافظت كل من موسكو وبكين على مدى عقود على مسافة بينهما، إذ إن هذين العملاقين الجارين ليسا حلفاء طبيعيين فحسب، بل منافسين. وفي ظل سياسة أمريكية تميل إلى المواجهة، أصبحت الصين وروسيا اليوم أكثر تقاربًا مما كانتا عليه منذ خمسينيات القرن الماضي.
يتشارك علناً الرئيس الصيني شي جين بينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، رؤية لإعادة تشكيل العالم وإنهاء عصر الهيمنة الغربية. التقدم السريع الذي أحرزته الدولتان في كل ما يتعلق بالفضاء دفع وزارة الدفاع الأمريكية منذ فترة إلى العمل بصمت على خطة جديدة تشبه “حرب النجوم”، مما يعزز المخاوف من تحول الفضاء إلى ساحة معركة.
لكن ما يثير القلق بشكل أكبر هو أن الصين وروسيا تبدوان وكأنهما تدعمان التوسع الإقليمي لبعضهما البعض. ففي الوقت الذي يوسع فيه بوتين دعمه لبكين بشأن قضية تايوان، يُظهر شي تأييدًا لجهود روسيا في “تأمين سيادتها وسلامة أراضيها”، في إشارة إلى حرب بوتين ضد أوكرانيا.
ينبغي ألا تصرف الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط الانتباه عن مدى هشاشة تايوان أمام هجوم صيني محتمل. تزيد هذه الحروب في الواقع، من خطر اندلاع صراع عسكري حول تايوان، إذ إن عدوان روسيا على أوكرانيا وتركيز الولايات المتحدة الناتج عن ذلك على أوروبا قد يدفع شي إلى الاعتقاد بأن الفرصة سانحة للصين لتحقيق “المهمة التاريخية” المتمثلة في ضم تايوان بالقوة. فأهداف شي في هذا الصدد واضحة؛ فقد أعلن منذ فترة طويلة أن “توحيد الوطن الأم” هو “جوهر” تجديد الأمة الصينية.

هل يُسرّع الغرب من انهياره؟
لن يتقرر النظام العالمي الجديد في أوروبا أو الشرق الأوسط – المنطقتين اللتين تنخرط فيهما الولايات المتحدة بعمق في الصراعات – بل في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي المنطقة التي تتطور لتصبح المركز الاقتصادي والجيوسياسي للعالم. لكن الدعم الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل أساس لأوكرانيا قلب أولويات الغرب الاستراتيجية رأساً على عقب.
إذا أخذنا بتصريحات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق بوريس جونسون، فإن القضية بالنسبة للغرب في أوكرانيا ليست فقط حول الحرب هناك، بل تتعلق أيضًا بما إذا كان سيحتفظ بهيمنته العالمية. ووفقًا لجونسون: “انتصار روسيا سيكون اللحظة التي يفقد فيها الغرب هيمنته التي تلت الحرب العالمية الثانية بشكل نهائي”. ولا يبدو في الوقت الحالي، أن النصر في صالح الغرب أو أوكرانيا، حيث إن التورط المتزايد في الحرب الأوكرانية يقلص الأولويات الغربية ويهدد بتسريع انهياره المرتقب.
كان جو بايدن هو الرئيس الأمريكي الثالث على التوالي الذي يسعى إلى تحويل التركيز الاستراتيجي للولايات المتحدة إلى آسيا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ. كما أعلن وزير دفاعه، لويد أوستن، في منتصف عام 2024، أن هذه المنطقة تمثل “منطقة العمليات ذات الأولوية” و”القلب الاستراتيجي للخطة الأمريكية طويلة الأجل”. ومع ذلك، لم ينجح بايدن في الواقع في تحويل التركيز الأساسي لسياسته الخارجية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وكان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو الحرب في أوكرانيا.
اشتكى في كتاب صدر مؤخرًا، المستشاران السياسيان السابقان روبرت بلاكويل وريتشارد فونتين من أن استراتيجية “التحول نحو آسيا” التي تم طرحها لأول مرة في عام 2011 قد فشلت حتى الآن، بسبب غياب نهج متماسك تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وبالتالي، لم تتمكن الولايات المتحدة من الرد بشكل مناسب على الصعود العدائي للصين، وهو ما وصفه المؤلفان بأنه أحد أكبر أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية.
لا تواجه الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، سوى منافس واحد حقيقي: الصين، التي تتفوق على روسيا في الأداء الاقتصادي والإنفاق العسكري والجوانب المادية الأخرى. يتجاوز سكان الصين سكان روسيا بعشرة أضعاف، واقتصادها أكبر بنحو عشرة أضعاف، بينما إنفاقها العسكري أعلى بنحو أربعة أضعاف. وفي حين أن خطط روسيا الاستراتيجية تظل محدودة إقليمياً إلى حد كبير، تسعى الصين إلى أن تحل محل الولايات المتحدة كقوة عالمية رائدة وإقامة نظام عالمي يتسم بالطابع الصيني. الصين قوية بما يكفي لتتبع رؤية شاملة ومحاولة إعادة تشكيل العالم. ما دامت النزاعات في مناطق أخرى تشتت انتباه الولايات المتحدة، فمن غير المرجح أن تحتل منطقة المحيطين الهندي والهادئ مركز التفكير الاستراتيجي الأمريكي.
بالطبع، لم تدرك الولايات المتحدة حتى الآن أنها قوضت مصالحها الاستراتيجية طويلة الأمد عندما دعمت صعود الصين الاقتصادي على مدار أكثر من أربعة عقود، وبذلك صنعت بنفسها أكبر خصم استراتيجي واجهته على الإطلاق. تمتلك الصين اليوم أكبر قوة بحرية وخفر سواحل في العالم، وتتنافس أيضًا مع الهيمنة الغربية في الشؤون المالية والاقتصادية. وكجزء من سعيها إلى نظام عالمي بديل، تسعى إلى عزل نفسها عن الضغوط الأمريكية وتفصل أجزاء كبيرة من اقتصادها عن الغرب. تتاجر الصين حالياً مع دول الجنوب العالمي أكثر مما تتاجر مع العالم المتقدم.
أما فيما يخص روسيا، فقد كافح الغرب، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، لإيجاد سبل لمعاقبة موسكو بشكل ملموس دون الإضرار بنفسه. ومع ذلك، تزداد هذه المهمة صعوبة، حيث إن العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها الولايات المتحدة على موسكو لم تؤدِّ إلى شل الاقتصاد الروسي أو تغيير سلوك الكرملين بأي شكل من الأشكال. بل على العكس، يبدو أن روسيا تحولت إلى اقتصاد حربي وزادت، على سبيل المثال، إنتاجها من الصواريخ والذخائر إلى مستويات تفوق ما كان عليه قبل الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، انتقلت أوروبا من الاعتماد على الطاقة الروسية الرخيصة إلى الاعتماد على إمدادات أغلى من دول أخرى، مما ساهم في الركود أو على الأقل في تباطؤ النمو الاقتصادي في أوروبا. أسعار الوقود المرتفعة، التي جاءت مباشرة بعد صدمة جائحة كورونا، تُعد عاملًا رئيسيًا في الأزمة الاقتصادية الحالية في أوروبا. وأبرز مثال على ذلك هو ألمانيا، التي كانت سابقًا المحرك الاقتصادي لأوروبا في سنوات ازدهارها، لكنها الآن تعيش أزمة اقتصادية تتمثل في انكماش الاقتصاد. تُعد ألمانيا اليوم واحدة من أسوأ الدول الصناعية أداءً اقتصاديًا. وفي وقت تشهد فيه العديد من الدول النامية والناشئة نموًا مذهلًا، تعكس المشكلات الاقتصادية الحالية في أوروبا الانحدار النسبي للغرب.
كما أن قرار الفاعلين الغربيين بمصادرة العائدات الناتجة عن الأصول المجمدة للبنك المركزي الروسي يبدو متعارضًا مع المصالح الغربية طويلة الأمد، ومن المرجح أن يعمق المسار الخاطئ الذي تم اتخاذه في عام 2022 باستخدام النظام المالي كسلاح. تبحث دول البريكس ومبادرات أخرى غير غربية بالفعل عن حلول بديلة لتقليل اعتمادها الكبير على الدولار الأمريكي في المعاملات الدولية والاحتياطات النقدية.
إن مصادرة العائدات الروسية تُعد ضربة ضد التزام أوروبا المُعلن للنظام القائم على الأسس، الذي تتباهى به كثيراً. وهذه الخطوة الأحادية الجانب لا تخلق فقط سابقة خطيرة في العلاقات الدولية، بل تُرسل أيضًا رسالة إلى الدول الأخرى بأن أموالها قد تكون غير آمنة في الغرب عند الضرورة، مما يعزز الحافز للبحث عن بدائل للمؤسسات والعملات الغربية. كما أن مصادرة الأرباح قد تُضعف دور الدولار كأهم عملة احتياطية في العالم وتجعل اليورو أقل جاذبية للدول غير الغربية، مما قد يجعل من الصعب على الغرب فرض عقوبات مالية على دول أخرى في المستقبل.
بالنظر إلى الدور الحيوي الذي تلعبه البنوك المركزية في النظام المالي العالمي، كانت أصولها تُعتبر حتى وقت قريب أمراً مقدساً لا يُمس. ومع ذلك، تم تجميد الأصول الروسية، التي يتم الاحتفاظ بأكثر من ثلثيها في مؤسسة “يوروكلير” للتسوية المالية ومقرها بروكسل، من جانب واحد، دون موافقة محكمة العدل الدولية أو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما يقتضي القانون الدولي. ولتتمكن المفوضية الأوروبية من مصادرة عائدات هذه الأصول المجمدة، زعمت أنها وجدت “طريقة قانونية”، وهي في الواقع لا تعدو كونها تحايلاً قانونياً
لنكن صرحاء: لا يمكن للغرب أن يحافظ على هيمنته العالمية إلا من خلال اتباع نهج تعاوني يستند إلى قواعد قانونية، بدلاً من استخدام وضعه المتميز – مثل هيمنته على المؤسسات الدولية ووضع الدولار واليورو كعملات احتياطية عالمية – كسلاح لتحقيق أهدافه. إن الاستخدام الروتيني للعقوبات كأداة للسياسة الخارجية واستغلال القطاع المالي لأغراض عسكرية يطلق عمليات عكسية لا تصب في مصلحة الغرب.
تعتمد فاعلية العقوبات الغربية ضد الدول الأخرى على هيمنة الدولار الأمريكي. ومع ذلك، كانت هيمنة الدولار في تراجع حتى قبل حرب أوكرانيا، ومن المرجح أن يؤدي اندلاع حرب مالية إلى تسريع هذا التآكل.
إن الإفراط في استخدام الغرب للعقوبات قلل من فعاليتها بشكل ملحوظ. وغالباً ما تفشل العقوبات في تغيير سلوك الدول المستهدفة، كما تظهر أمثلة عديدة، من روسيا وإيران إلى ميانمار وسوريا. من الأفضل لصانعي القرار الغربيين أن يدركوا أن استخدام الاعتماد المالي كسلاح قد يؤدي على المدى الطويل إلى ظهور ترتيبات مالية بديلة.
عندما يبدأ توجه جديد، غالباً ما يستغرق الأمر سنوات حتى تتضح أشكاله. ومع ذلك، فإن المهم إدراك أن هذا الاتجاه قد بدأ بالفعل. قال الرئيس الأمريكي السابق والمُعاد انتخابه دونالد ترامب في عام 2023: “إن كون الدولار العملة الاحتياطية الرئيسية للعالم يجعلنا أقوياء ومسيطرين.” وأضاف أنه في حال حدوث “إلغاء الدولرة”، سيكون الأمر أشبه بخسارة حرب عالمية، وستصبح الولايات المتحدة “دولة من الدرجة الثانية.

يشهد هذا التوجه بالفعل زخماً في أسواق النفط. كما أن بعض الدول تقوم بتكديس الذهب كوسيلة للتحوط ضد الدولار. وقد أدت الزيادة في مشتريات الذهب من قبل البنوك المركزية في الصين وتركيا والهند وكازاخستان ودول أوروبا الشرقية، إلى رفع سعر الذهب إلى مستويات قياسية، على خلفية حالة عدم اليقين الجيوسياسية الكبيرة.

في الطريق نحو نظام عالمي جديد؟
لم تكن فترات السلام، بل الحروب، هي التي شكلت النظام الدولي والمؤسسات الدولية في العصر الحديث. لقد نشأ النظام العالمي الحالي تحت قيادة الولايات المتحدة، بما في ذلك النظام النقدي الذي تجسده مؤسسات بريتون وودز، من رحم الحرب العالمية الثانية. كما أن منظمة الأمم المتحدة نشأت كمنظمة نتيجة لهذه الحرب.
لكن السمة الحاسمة لعصرنا الحالي ليست حربًا عالمية، بل تعدد الأزمات والنزاعات والحروب، التي تؤدي بشكل متزايد إلى اضطرابات دولية. يبدو العالم على أعتاب تغييرات جيوسياسية واقتصادية كبرى تتكشف تدريجيًا، وقد تعيد تشكيل النظام المالي العالمي وأنماط الاستثمار والتجارة في مجال الطاقة. التحديات التي نواجهها تشمل نقص القيادة العالمية، وتزايد التفاوت الاجتماعي، وتصاعد النزعة الاستبدادية في أجزاء واسعة من العالم، بالإضافة إلى الآثار العالمية الناجمة عن تدمير البيئة وتغير المناخ.
إن تراجع قوة الغرب، وتآكل النفوذ الأمريكي – حتى على حلفائها –، والاقتصاد الروسي الذي يزداد عسكرة، وتباطؤ النمو في الصين، وتزايد وزن الجنوب العالمي مع اقتصاداتها الأسرع نموًا، كلها عوامل تغير النظام العالمي. التوترات الجيوسياسية الناجمة عن هذه التحولات لم تكن يومًا بهذا الحجم من قبل.
في ظل هذه الخلفية، تتشكك التحالفات والائتلافات الجديدة بشكل متزايد في الهيمنة الغربية على المؤسسات الدولية، بما في ذلك الهيكل المالي العالمي. إن النداء الدولي المتزايد لمجموعة بريكس المكونة من تسعة أعضاء حاليًا، والتي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا وإيران ومصر وإثيوبيا والإمارات العربية المتحدة، و من خلال حقيقة بأن 40 دولة أخرى أعربت عن رغبتها في الانضمام. إنهم جميعًا يشتركون في هدف نظام عالمي متعدد الأقطاب بدلاً من الهيمنة الغربية. مجموعة البريكس ليست فقط بديلاً موثوقًا لمجموعة السبع، ولكن لديها أيضًا القدرة على أن تصبح رأس الحربة لإعادة تشكيل النظام الدولي رغم أن تحالف البريكس، الذي يُعد أول تجمع كبير غير مهيمن من قبل الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، ليس كتلة مغلقة؛ فإن الانقسامات الداخلية والتنافسات، خصوصاً بين العملاقين السكانيين الصين والهند، تشكل عبئاً عليه إلى حد ما. ومع ذلك، فإن جميع المنظمات غير الرسمية الأخرى التي لا تمتلك ميثاقاً أو سكرتاريا دائمة، بما في ذلك مجموعة السبع الكبرى، تواجه أيضاً ضغوطاً. إضافة إلى ذلك، فإن القوة الكامنة في البريكس تستند إلى توافق أساسي بين الدول الأعضاء منذ تأسيس المجموعة في 2006، بأن تعزيز تعددية الأقطاب هو أفضل طريق للحد من ممارسة القوى المهيمنة – التي إذا لم يتم كبحها، قد تؤدي إلى استبداد يهدد الأمن الدولي ويقوض القواعد والمعايير الدولية. لا يرغب جزء كبير من العالم في التمسك بالنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بل يسعى إلى نظام متعدد الأقطاب أكثر، يمنع استبداد الأفراد ويعزز العدالة.
على الرغم من أن النظام الدولي الحالي يوصف في كثير من الأحيان بمصطلحات تبدو محايدة، مثل “النظام العالمي القائم على القواعد”، إلا أن الولايات المتحدة تتمتع بلا شك بمكانة خاصة هنا. لم تضع الولايات المتحدة القواعد التي يقوم عليها هذا النظام فحسب، بل يبدو أنها تعتبر نفسها مستثناة من بعض القواعد والمعايير المهمة، مثل الحظر على التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. الحقيقة، في عالم اليوم، غالباً ما يكون أولئك الذين يستندون إلى القانون الدولي هم أنفسهم الذين ينتهكونه أو ينتهكون القواعد الدولية، بما في ذلك الأنشطة المحظورة مثل غزو الأراضي، والقتل المستهدف لمسؤولين أجانب، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. وغالباً ما تشير التأكيدات المكررة على الحفاظ على “النظام القائم على القواعد” إلى قواعد لا يلتزم بها حتى صناعها عندما تعترض على مصالحهم الخاصة.
إذا لم يتغير النظام الدولي بشكل جذري، فإن السنوات والعقود القادمة لن تختلف جوهرياً عن العقود الماضية من حيث انتهاك سيادة الدول الأضعف من قبل الدول الأقوى – سواء بالوسائل العسكرية أو من خلال العقوبات كأداة سياسية. كما أن عواقب التدخلات العسكرية لن تتغير بشكل جوهري. فقد تركت العمليات العسكرية الأجنبية في هذا القرن وحده، العديد من الدول في حالة من عدم الاستقرار. وقد تحولت بعض الدول المتأثرة إلى دول فاشلة أو في طور الفشل، وأصبحت ساحات للعنف والدمار المستمر. ليبيا، وأفغانستان، واليمن، والعراق، وسوريا هي أمثلة على ذلك. قد تصبح أوكرانيا المدمرة أيضاً دولة غير مستقرة.
أن الوضع العالمي الحالي هو أخطر مرحلة منذ الحرب الباردة. يبدو أننا نشهد بداية لعالم بلا نظام. لكن من الواضح أنها مجرد، مرحلة انتقالية، وفي السنوات القادمة ستكون هناك صورة أوضح لنظام مستقبلي. باستثناء النخب الغربية، لا يأسف الكثيرون على انهيار “النظام الدولي القائم على القواعد” الذي لم يكن في الواقع قائماً على القواعد ولم يكن دولياً حقاً. بل كان نظاماً قائماً على القوة، أنشأته الولايات المتحدة بمساعدة حلفائها. الدول التي تجرأت على معارضة هذا النظام تم معاقبتها من قبل الغرب – من خلال العقوبات، التدخلات العسكرية، أو وسائل أخرى تهدف إلى تغيير النظام.
اتهام الولايات المتحدة بالتورط في الإطاحة بالأنظمة أو في حالات أخرى، بالحفاظ عليها في السلطة من خلال التدخل في الانتخابات أو دعم انتفاضات عنيفة مثل الثورات الملونة، ليس جديداً. واجهت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، اتهامات من قبل رئيسي وزراء معزولين في بنغلاديش وباكستان بأنها كانت وراء سقوطهما. من بين أكثر من عشرين انقلاباً عسكرياً أو استيلاءً غير مباشر على السلطة العسكرية في السنوات الخمسة عشر الماضية، امتنعت الولايات المتحدة عن إدانة حوالي نصف هذه العمليات علنًا، لأنها رأت أن التغيير الحكومي يخدم مصالحها الإقليمية وقوتها ونفوذها. في حال كان الاستيلاء العسكري على السلطة يتعارض مع مصالحها، تُسميه الولايات المتحدة “انقلاباً”، وهو ما يعني وقف جميع المساعدات الأمريكية للدولة المعنية. مثال على ذلك هو ميانمار، حيث دفع عودة الجيش إلى السلطة الرئيس بايدن في عام 2021 إلى فرض عقوبات صارمة وتقديم أسلحة للمتمردين الذين يقاتلون ضد المجلس العسكري. أما إذا كان النظام المدعوم من الجيش صديقاً للولايات المتحدة، كما في بنغلاديش وباكستان وتايلاند (حيث ظل رئيس الأركان في السلطة تسع سنوات بعد الانقلاب في عام 2014)، فإن واشنطن تمنحه الدعم الكامل.
من منظور “الجنوب العالمي”، أظهر هذا “النظام القائم على القواعد” في الواقع شيئًا واحدًا وبأقصا قدر من الوضوح: أن القانون الدولي قوي أمام الضعفاء، لكنه عاجز أمام الأقوياء. لذلك، ليس من المستغرب أن تكون الرغبة في التغيير منتشرة في أجزاء كبيرة من العالم – رغبة تتوجه نحو إصلاحات هيكلية داخل المؤسسات الدولية القائمة، فضلاً عن نظام عالمي جديد تمامًا.
قد تمهد الأوقات المضطربة الحالية الطريق لإعادة ترتيب جيوسياسية واقتصادية عالمية عميقة. لكن التغييرات ستكون أقرب إلى التطور منها إلى الثورة. ولكن عاجلاً أم آجلاً، سيؤدي عملية التغيير التدريجي إلى تحولات أساسية في المشهد الدولي. في غضون ذلك، بينما يتلاشى النظام القائم، ستزداد حالة عدم الاستقرار في العلاقات الدولية، مع ظهور أو زيادة المخاطر الجديدة. قد يكسب “قانون الأقوى”، الذي بدأ في فرض نفسه بالفعل، مزيدًا من القوة.
ــ براهما تشيلاني هو أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز سياسة الأبحاث في نيو دلهي، وزميل ريتشارد فون فايتسايكر في أكاديمية روبرت بوش في برلين، وعضو في المركز الدولي لدراسة التطرف في كلية كينجز
. في لندنKings College
— Brahma Chellaney: Ende der westlichen Vorherrschaft? Auf dem Weg zu einer neuen Weltordnung. ApuZ. Zeitschrift der Bundeszentrale für politische Bildung, 74. Jahrgang 49 – 51 /2024, 7. Dezember 20204.

spot_imgspot_img