spot_img

ذات صلة

جمع

والقَصَر إِنَّ البُرهان لفِي خُسرٍ 

فتحي الضو يقول السودانيون في أمثالهم الدارجة: (حبل الكضب قصيِّر)...

قطيعة مع دولة الحزب والحرب

ربما لم يكن القيادي بالمؤتمر الوطني الداعي إلى التصالح...

كيف استغل الكيزان كراهية الدعم السريع لضرب الثورة

عمر سيد أحمد منذ بداية الحرب، ارتبط اسم “الدعم السريع”...

كيف استغل الكيزان كراهية الدعم السريع لضرب الثورة

عمر سيد أحمد

منذ بداية الحرب، ارتبط اسم “الدعم السريع” في أذهان السودانيين بالخراب، القتل، والدمار. هذا الغضب الشعبي مشروع، ومبني على وقائع دامية لم تجف دماؤها بعد. لكن في ظل هذه الكراهية، تحركت ماكينة الفلول بدهاء، فاستثمرت هذا الغضب لتوجيهه لا ضد الدعم السريع وحده، بل ضد الثورة نفسها، وضد أي مشروع مدني.

الثورة التي كشفت عورة النظام

نظام الإنقاذ حكم السودان لثلاثين عامًا لم يورث فيها سوى الفقر، الفساد، وانهيار الدولة. حوّل المؤسسات إلى ملكية خاصة، ونهب الموارد باسم الدين، وسحق كل صوت معارض. جاءت ثورة ديسمبر بوعي شعبي حقيقي، فضحت كل ذلك، لكنها اختارت القانون بدل الانتقام، والمحاسبة بدل الفوضى. سقط البشير، لكن لم تسقط معه منظومة التمكين. ظلت قيادة الجيش شريكًا للفلول في السلطة، وبدعم إقليمي – خاصة من مصر – أُفشل أي أفق لتحول مدني حقيقي. ومع تعثر التسويات، لم يجد الكيزان طريقًا للعودة إلا عبر الحرب.

من أدوات القمع إلى الحرب المفتوحة

الدعم السريع وُلد أصلاً كأداة قمع بلا قانون، واستُدرج إلى صدام دموي مع الجيش، في لحظة كان فيها الجميع يدفع نحو الفوضى. صحيح أن قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم موثقة، لكن السردية التي روّج لها إعلام الفلول تجاهلت عمدًا جرائم الجيش والمليشيات المتحالفة معه. كثير من ضباط الدعم السريع خدموا فيه بانتداب مباشر من الجيش، ثم عادوا إليه بلا حساب. لا تحقيقات، لا محاسبة، ولا حتى اعتراف. كأن دماء السودانيين بلا قيمة، طالما القاتل يرتدي الكاكي الصحيح.

شيطنة الثورة وتبييض الفلول

في الجزيرة، ظهر اللواء كيكل كرمز لهذا التواطؤ، وسط اتهامات بمجازر وتصفيات. وبعد انسحاب الدعم السريع، عادت الاعتقالات، والتصفيات، والاستهداف العشوائي للنشطاء. الخرطوم شهدت نفس المشهد: إعدامات ميدانية، اختفاءات قسرية، وعنف بلا حدود. لكن الإعلام الرسمي صمت، لأنه ملتزم بشعار “الجيش الواحد”. بموازاة ذلك، تم تحميل الدعم السريع وحده جريمة فض الاعتصام، رغم الشهادات التي تثبت أن كتائب الظل ومليشيات البشير كانوا جزءًا من الجريمة، بتنسيق مباشر من لجنته الأمنية.

الإعلام كسلاح إبادة رمزية

في وسط هذه الفوضى، تم ضخ أموال ضخمة لتحريك ماكينة إعلامية هدفها واضح: شيطنة الثورة، تشويه المدنيين، وتلميع الفلول. استخدموا كل شيء: فنانين، مؤثرين، نساء، ووجوه إعلامية مستهلكة، في حملات لا تخدم الحقيقة، بل تخدم شبكة المصالح التي يريدون إعادة تدويرها. الكراهية تجاه الدعم السريع تحولت بسلاسة إلى كراهية لكل مدني، لكل ثائر، لكل مطالب بإيقاف الحرب، ولكل من يطالب بالديمقراطية. الضحية صار متهمًا، والقاتل صار “حامي الوطن”.

الاغتيال الرمزي للثوار

حتى الأصوات المدنية التي رفضت الحرب لم تسلم. كل من دعا لوقفها أو حذّر من عواقبها، تم تخوينه. وُصفوا بـ”الجنجويد”، “القحاطة”، و”العملاء”. الهدف: تدمير الموقف الوطني، ومساواة الثوار بالمجرمين، وفرض الحرب كخيار وحيد “لحماية الدولة”. لكن أكبر جريمة لم تكن الحرب فقط، بل الكذب حول أسبابها. العدو الحقيقي لم يكن الدعم السريع وحده، ولا الجيش فقط، بل كل من أشعل النار ليحرق بها أحلام السودانيين.

الحرب كأداة انتقام سياسي

الحرب لم تكن قدرًا. كانت مشروعًا سياسيًا لضرب الثورة، وإعادة تمكين الدولة العميقة. الإعلام الكيزاني تحوّل إلى أداة قصف يومي: ترويج أكاذيب، تخوين كل من يرفض الحرب، وتصويرها كـ”معركة كرامة”، رغم أن الواقع كان واضحًا: هذا صراع على السلطة والثروة، لا علاقة له بالوطن. الذين انحازوا لجيش تهيمن عليه الحركة الإسلامية لا يمكنهم التبرؤ من نتائج هذا الانحياز. أول أهداف هذه الحرب كان تصفية شباب المقاومة. الدعم السريع، رغم جرائمه، كان مجرد أداة في مشروع أكبر.

من الاستنفار إلى الحرب الأهلية:
كيف غيّر الكيزان تعريف الحرب

في اللحظة التي بدأت فيها الحرب، كان واضحًا أنها ليست معركة بين جيشين نظاميين بقدر ما كانت فرصة ذهبية للكيزان لإعادة إنتاج أنفسهم. فاستخدموا كل أدواتهم القديمة والجديدة لتغيير سردية الصراع : من صراع على السلطة والثروة، إلى “حرب كرامة”. ولتبرير ذلك، أطلقوا ما سموه بـ”الاستنفار”، وفتحوا أبواب تسليح المدنيين، وزرعوا خطاب الكراهية، وسمحوا بعودة علنية للكتائب الإسلاموية التي ظلّت تعمل في الخفاء لسنوات. هذه الكتائب، التي أُخضعت لقوانين الأمر الواقع لا القانون، ظهرت فجأة كمكون “شرعي” في مشهد الحرب، وهو ما مهّد الطريق لجر البلاد نحو حرب أهلية شاملة، لا تبقي ولا تذر.
كان الهدف واضحًا: تحويل الحرب من معركة سياسية إلى صراع وجودي، تُستباح فيه البلاد كلها تحت غطاء “الدفاع عن الوطن”، بينما الحقيقة أن ما دُفِع إليه الناس كان مجرد غطاء لتصفية حسابات قديمة، واستكمال مشروع الانتقام من الثورة.

الخراب الحقيقي … والدم الذي يدفعه الفقراء

من دفع الثمن؟ ليس رموز الإنقاذ، بل الفقراء، والنازحون، والطلاب، والأمهات. الكيزان هربوا قبل اندلاع الحرب. لم يُفاجَأوا بها، بل خططوا لها. بينما الشعب يُذبح، أبناؤهم في الخارج، ينعمون بما نُهب طوال ثلاثين عامًا. إنّ من يقف اليوم إلى جانب جيش تُهيمن عليه الحركة الإسلامية، لا يمكنه التنصل من نتائج هذا الخيار. فالجميع يعلم أن أول أهداف الحركة الإسلامية من هذه الحرب هو التخلص من شباب المقاومة، وتصفية الثورة من جذورها.
كل الدلائل تشير إلى أن هذه الحرب صُممت وأُديرت كأداة انتقام من الذين أسقطوا نظامهم، وليس كما يُسوَّق لها كحرب “وطنية”. الدعم السريع، رغم جرائمه، لم يكن سوى عارض على طريق مشروعهم الأكبر. لذلك، فإن البكاء على خيارات الانحياز للجيش في نسخته الإسلاموية، أمر محزن ومخجل. إنه شبيه بخيار الناخب الأميركي الذي أوصل دونالد ترمب إلى الحكم ثم تباكى على الفوضى التي جلبها. لا مكان هنا للبراءة أو المفاجأة. الاختيار كان واضحًا، وعواقبه كانت مكشوفة. والسردبة الآن، لا تعفي من المسؤولية.

خاتمة : لا عدالة دون كشف الحقيقة كاملة

الحرب اندلعت لا لتخليص الوطن، بل لدفن الثورة. من يبررها أو يصمت عليها، يشارك في هذه الجريمة. لا يمكن بناء دولة مدنية على أنقاض الأكاذيب، ولا يمكن تجاوز جراحنا بينما نبرئ القتلة بأيدينا. الثورة ليست لحظة عاطفية. إنها مشروع طويل، لا يكتمل إلا بكشف الحقيقة كاملة، ومحاسبة كل من تلطخت يداه، أيًا كان لباسه، أو شعاره.

Omer Sidahmed
أبريل 2025

spot_imgspot_img