spot_img

ذات صلة

جمع

تصاعد الحرب الكارثية علي السودانيين وتقاطعات وتداعيات الأزمه أقليميا ودوليا

شريف يس اجتماع الرباعيه الذي عقدة نائب وزير الخارجيه الأمريكي...

قصف متسلسل يستهدف مواقع “الدعم السريع” في نيالا

نيالا: التحول أفاد شهود عيان ومصادر طبية في مدينة نيالا...

غياب صفوة السودان عن أزماته

جمال محمد إبراهيم ظاهرة لم يلتفت إلى سبر أغوارها كثيرون،...

الصمغ العربي ما بين الحُلم السيادي ومزالق التسييس: هل يفعلها السودان؟

عبد العظيم ميرغني

ما الذي يجعل سلعةً زراعيةً تتحول إلى أداة سيادية؟
︎ ما الذي جعل من زيت النخيل سلعة سيادية لإندونيسيا وماليزيا، ومن النحاس أداة استراتيجية لتشيلي، ومن الكاكاو علامة وطنية للإكوادور؟
︎ لماذا ليس لدينا سلعة سيادية مثل غيرنا من الدول؟
︎ لماذا ظل الصمغ العربي في السودان مثلاً بعيداً عن أن يُفعَّـل كسـلاح سـيادي ونفوذ ناعـم؟
︎ بإعتباره خياراً طبيعياً ، يتمتع الصمغ العربي بمؤهلات أقوى لتأدية هذا الدور مقارنة بالنحاس التشيلي ؛ لا بسبب قيمته التجارية العالية وندرته فحسب ، بل لأنه منتج متجدد ، بخلاف النحاس الذي يُصنّف مورداً قابلاً للنضوب . ومع ذلك تُقدّم التجربة التشيلية نموذجاً راسخاً لتطوير سلعة إستراتيجية ضمن إطار مؤسسي يميز بوضوح بين أدوار الدولة والمنتجين .
︎ يعد الصمغ العربي أكثر ملاءمة من الكاكاو الإكوادوري لتوظيفه كسلعة إستراتيجية ، ليس فقط بسبب إستخدامه الآمـن وتجربته عبر قرون ، بل أيضاً لتعدد إستخداماته في الصناعات الدوائية والغذائية والتقنية .
في المقابل لم يحقق الكاكاو الإكوادوري مكانته إلا بعد أن أعيد تقديمه كعلامة تجارية وطنية فاخرة ، من خلال تحسين الجودة ، وتطوير التسويق ، ودعم صغار المنتجين ، دون تسييس أو تدخلات خارج الإطار الإقتصادي .
︎ ما يميز الصمغ العربي عن زيت النخيل الأندونيسي والماليزي أنه نتاج تفاعل طويل ومستدام بين الإنسان والبيئة ، يستند إلى المعرفة المحلية والممارسات الزراعية التقليدية المتوارثة ، مما يجعله مرشحاً مثـالياً للإندماج في منظومة ” الإقتصـاد الأخضـر ” التي تسعى إلى التوازن بين النمو الإقتصادي والحفاظ على البيئة .
︎ في المقابل ورغم الأهمية الإقتصادية لزيت النخيل ، إلا أنه لم ينظر إليه في ماليزيا كسلعة إستراتيجية إلا في ستينيات القرن الماضي ، حين بدأت الدولة الإستثمار المنظم فيه .
وقد تمكنت ماليزيا بفضل تحالف إقتصادي-سياسي متين من تحويل هذا المورد الزراعي من مجرد مصدر لمنتج خام إلى سلعة وأداة إستراتيجية ، مكنها من بسـط نفوذها حتى على أسـواق أوروبا وآسـيا .
︎ وفي إندونيسيا المنتج الأول لزيت النخيل في العالم لم يتحول هذا المنتج الزراعي إلى سلعة إستراتيجية ، إلا من خلال البنية المؤسسية الفاعلة ، غير أن هذه المكاسب كادت أن تتبدد عندما دخل المنتج في مواجهة سياسية مع الإتحاد الأوروبي ، مما أظهر هشاشـة الإنجـاز حين يُـزج بالإقتصاد في رهـانات السياسـة .
︎ لم يكن التحول الماليزي هذا نتاج مصادفة ، بل عدة خطوات مدروسة ، منها فرض قيود تدريجية على تصدير الزيت الخامة، وإنشـاء هيئة خاصة مكلفة بتنظيم السوق ، البحث العلمي ، والتسويق الدولي ، إلى جانب دعم الصناعات التحويلية في مجالات الأغـذية والتجميـل والزيوت الصـناعية ، وتأهيـل المـزارعين ، وتعزيز دور التعاونيات .
︎ بعد هذا النموذج الناجح ، يبرز سـؤال مُلِـح :
ما الذي لم يفعله السـودان بالصـمغ العـربي ، وفعلته مـاليزيا بزيت النخيـل؟
︎ لم يكن السودان غائبـاً عن سـاحة المُبـادرات ؛ فمنذ سـتينيات القرن الماضي ، إتخـذ خـطوات واعـدة في تنـظيم قطاع الصـمغ العـربي ، بدأت بسن قانون الإمتياز (الإحتكار) وإنشـاء شـركة الإمتيِاز (شركة الصـمغ العـربي) في السـتينات أيضاً (1969) ، لتتولى المـهام المماثـلة لما أوكلته مـاليزيا إلى هيئتها المختصـة بزيت النخـيل.
ثم أُنشئ مجلس سـلعي في 2009 مع تحرير القطاع من نظام الإحتكار ، تلاه إعداد خطة إستراتيجية شاملة (2020–2030) بأهـداف واضـحة ومشـروعات محـددة ، منها فرض إجراءات تنفيذية لتصدير الصـمغ مصـنعاً في خطوات تدريجيـة ، إضـافة إلى تنظيم أكثـر من 4500 جـمعية تعاونيـة لصـغار المنتجـين .
︎ على الورق تبـدو الخطـوات التي إتخذها السـودان مُـطابقة تقـريباً لما فعلته مـاليزيا . ومـع ذلك يبقى السـؤال معلقـاً:
لمـاذا لم يجـنِ السـودان نتائج مـماثلة؟
︎ الجواب لا يكمن في نقص المبادرات أو غياب الخُطط ، بل في غياب البيئة المؤـسية المُستقرة التي تفصل بين الإقتصاد والسياسة ، وتوفـر إرادة سـيادية تضـع المصـلحة الوطنيـة فوق الإعتبارات الآنية والضيقة .
︎ فعلى الرغم مـن توافر الموارد ، والإرث المعرفي المتجذر حـول الشجرة ، والنصيب الأكبر من السوق العـالمي ، لم تُترجـم هـذه الميزات إلى نفـوذ فعَّال أو مكاسب إستراتيجية .
وظل الصمغ العربي حبيس خانة ” الحُلم السيادي ” حُلمٌ مُعلّق فوق الشجرة ، ومُهدداً دوماً بخطر التوظيف السياسي أو تقلبات الأسواق التي قد تدفع العالـم إلى البحـث عن بدائـل ، وتُفسح المجـال لمنافسـين جُـدد.
︎ من هـنا تبـرز أهمـية مراجعـة التجارب السـابقة ، لا سـيما تلك التي كشـفت عن مكامـن الخـلل في إدارة هذا المـورد الإسـتراتيجي ، كما أوضحتها دراسـة الهيئـة القوميـة للغـابات بالتعـاون مع الفـاو عام 2001 ، التي شـملت مسـحاً للأسـواق العالميـة أنجـزه الخبيـر البريطاني جـون كوبـن ، إلى جانب دراسـة مجموعـة سـتيرلنغ العالمية المكلّفة من قِبـل الهيئـة القومية للغـابات في العام 2012 ، والتي هدفت إلى إِستكشاف الطلب العـالمي وتحـديد فُـرص الصـمغ السـوداني في الأسـواق الدوليـة .
︎ أوضحت هاتان الدراستان ، على سبيل المثال لا الحصر ، تزعـزع ثقـة المستهلك في سـلعة الصـمغ العـربي وإهتـزاز ثقتـه في قـدرة وإمكانـات السـودان علي ضـمان تدفـق الصـمغ علي الأسـواق العالمية مثلمـا حـدث في موسمي 73/1974 و 84/1985 حين إسـتغل السـودان نـدرة الإنتـاج في دول غـرب أفريقيـا بفعـل الجفـاف ، و92/1993م في السـودان بفعـل أسـراب الجـراد ، لتحقيق أكبـر عائـد من العمـلات الصـعبة عن طريق بيع للصـمغ بالعطاءات .
︎ فإرتفعت الأسـعار بنسبة تجاوزت 400% مقارنـة بأسـعار بدايـة الموسـم ، الأمـر الذي حفّـز الأسـواق العالمية على البحث عن بدائـل الصـمغ الإصطناعية زهـيدة الثمـن والأكـثر إسـتقراراً مقارنة بالصـمغ ، والتي إقتـطعت نسبة 30% من سـوق الصـمغ العالمي . كما دفع قصـور الإمـداد وارتفاع الاسعار المستهلك للتوجـه نحو محاولـة كسـر إحتـكار السـودان لسـلعة الصـمغ في الأسواق العالمية بتشـجيع دول أخـرى منافسة لزيـادة إنتاجها من الصـمغ ، وتعـديل مواصـفة الصـمغ العربي كذلك لتشـمل صـمغ الطلح الذي تتمـيز به تلك الدول بجانب صمغ الهشاب الذي نتميـز به نحـن .
︎ وفي التسعينيات حينما بلغ سعر طن الصـمغ نحو 4200 دولار ، تراجعت الصـادرات وتراكم المخـزون ، لتؤكـد التجـربة أن التسـعير السـياسي قصـير الأمد لا يصنع إسـتراتيجية تنموية ، بل يُعرقِـل النمـو ويُقـوّض فـرص الإسـتدامة الإقتصـادية .
︎ تمخض عن كل ذلك محاولات كسـر إحتكـار السـودان لسـوق الصـمغ العالمي ، والتي بدأت بتوسيع مواصفة الصـمغ العربي (في عام 1998) ، لتضم صمغ الطلح لصـمغ الهشاب الذي يتميز به السـودان ، والذي يبلغ سعر صـمغه أقلّ من ثُلـث سـعر صـمغ الهشـاب .
︎ فتحت هذه المواصفة المجال واسـعاً أمام تصدير صـمغ الطلح حتى صـارت صـادراته تُشـكل أكثـر من 80% من إجمـالي صـادرات السـودان في الأسـواق العالميـة ، مما تسـبب في فقـدان السـودان جـزءاً كبيراً من عائدات العملة الصعبة .
︎ أدى تبني مواصـفة 1998 إلى زيادة عدد الدول الأفريقية المنتجة للصـمغ العربي من 8 دول قبل المواصـفة إلى 15 دولـة بعـدها .
︎ وفي سـياق محاولات كسـر إِحـتكار السـودان لسـوق الصـمغ العالمي ظلت الأسـعار التي تدفعها الشـركات العالمية لشراء أصـماغ نيجيريا وتشاد دائماً أعلى من تلك التي تدفعها مُقـابل صـمغ السـودان ، رغم تفوق جـودة الصـمغ السـوداني . وهو ما يعكس إختلالاً في القيمة السـوقية لمنتج إسـتراتيجي ، ويعيد طرح السـؤال حول ما إذا كنا نمنح هذا المورد ما يسـتحق من إهتمـام وتخـطيط .
︎ في الختـام يبقى الصـمغ العـربي حُلمـاً سـيادياً مشـروعاً ونبيـلاً ، لكـن تحققـه مرهـونٌ بالخـروج من مـزالق التسييس إلى رحاب الإدارة الرشـيدة .
︎ ما ينقص السـودان ليس المـوارد ولا الـرُؤى ، بل الإرادة المؤسـسية التي تحول الحُلـم إلى واقـع .
︎ فهل يفعلها السودان؟
︎ تضـرُعاتي بحسـن الخـلاص ؛ وتحيـاتي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبدالعظيم ميرغني ــــ خبير زراعي والمدير العام السابق لإدارة الغابات بوزارة الزراعة

spot_imgspot_img